الرئيس السيسي يصل مقر احتفال أكاديمية الشرطة    بث مباشر.. السيسي يشهد حفل تخرج دفعة جديدة من طلبة أكاديمية الشرطة    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الأحد 29 سبتمبر    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الأحد    9 شهداء إثر غارة جوية إسرائيلية على بلدة العيم في لبنان    "أكسيوس": إسرائيل تطلب من الولايات المتحدة ردع إيران بعد اغتيال زعيم حزب الله    الأهلي يصطدم ببرشلونة لحسم صدارة مجموعته ب «سوبر جلوب»    القصة الكاملة في واقعة اكتشاف سحر للاعب مؤمن زكريا داخل المقابر    ضبط عامل بكافتيريا وضع هاتف محمول للتصوير بحمام السيدات في طنطا    ارتفاع أعداد المصابين في حادث انقلاب ميكروباص بقنا ل14 مصابًا    الحالة المرورية اليوم| انتظام حركة السيارات بشوارع وميادين القاهرة الكبري    وفاة شقيقة الدكتور أحمد عمر هاشم    استدعاء «التربي» صاحب واقعة العثور على سحر مؤمن زكريا    وزارة الصحة تنظم برنامجا تأهيليا لأطباء الصدرية    رسميًا الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصرى اليوم الأحد 29-9-2024 فى البنوك    "حالة الطقس في مصر".. تفاصيل وتحذيرات حول التقلبات الجوية في خريف 2024    شيرين توجه رسالة لشقيقها: «آسفة بعتك بأرخص تمن».. والأخير يرد    ريهام عبدالغفور تنشر صورة تجمعها بوالدها وتطلب من متابعيها الدعاء له    وزير الخارجية يؤكد ضرورة احترام سيادة لبنان وعدم المساس بوحدته    مسئول أمريكي كبير يرجح قيام إسرائيل بتوغل بري محدود في لبنان    3 شهداء فى قصف الاحتلال الإسرائيلى شمال ووسط قطاع غزة    حديد عز يتجاوز 43,000 جنيه.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 29-9-2024    «لاعب مفاجأة».. مدحت عبدالهادي يختار نجم الزمالك أمام الأهلي في السوبر    صدمة إسعاد يونس من ابنها بسبب علاقة غير مشروعة.. أحداث الحلقة 6 من مسلسل «تيتا زوزو»    مصر تسترد قطعا أثرية من أمريكا    المندوه: ركلة جزاء الأهلي في السوبر الإفريقي «غير صحيحة»    محمد طارق: السوبر المصري هدف الزمالك المقبل..وشيكابالا الأكثر تتويجا بالألقاب    فخري الفقي: 30% من الدعم العيني يذهب لجيوب غير المستحقين ويزيدهم ثراءً    داعية إسلامي يضع حلًا دينيًا للتعامل مع ارتفاع الأسعار (فيديو)    خبير يكشف عن السبب الحقيقي لانتشار تطبيقات المراهنات    نشرة ال«توك شو» من «المصري اليوم»: «احترم نفسك أنت في حضرة نادي العظماء».. تعليق ناري من عمرو أديب بعد فوز الزمالك على الأهلي.. أحمد موسى عن مناورات الجيش بالذخيرة الحية: «اللى يفت من حدودنا يموت»    إسرائيل تمهد لعمل بري في لبنان، وإيران تطالب بإدانة "العدوان الإرهابي"    نشوي مصطفي تكشف عن مهنتها قبل دخولها المجال الفني    طائرات الاحتلال تشن غارة جوية على مدينة الهرمل شرقي لبنان    إصابة ناهد السباعي بكدمات وجروح بالغة بسبب «بنات الباشا» (صور)    المنيا تحتفل باليوم العالمي للسياحة تحت شعار «السياحة والسلام»    أمير عزمي: بنتايك مفاجأة الزمالك..والجمهور كلمة السر في التتويج بالسوبر الإفريقي    لافروف يرفض الدعوات المنادية بوضع بداية جديدة للعلاقات الدولية    أول تعليق من محمد عواد على احتفالات رامي ربيعة وعمر كمال (فيديو)    حكاية أخر الليل.. ماذا جرى مع "عبده الصعيدي" بعد عقيقة ابنته في كعابيش؟    مصر توجه تحذيرا شديد اللهجة لإثيوبيا بسبب سد النهضة    الصحة اللبنانية: سقوط 1030 شهيدًا و6358 إصابة في العدوان الإسرائيلي منذ 19 سبتمبر    أسعار السيارات هل ستنخفض بالفترة المقبلة..الشعبة تعلن المفاجأة    «التنمية المحلية»: انطلاق الأسبوع التاسع من الخطة التدريبية الجديدة    ورود وهتافات لزيزو وعمر جابر ومنسي فى استقبال لاعبى الزمالك بالمطار بعد حسم السوبر الأفريقي    القوى العاملة بالنواب: يوجد 700 حكم يخص ملف قانون الإيجار القديم    راعي أبرشية صيدا للموارنة يطمئن على رعيته    برج السرطان.. حظك اليوم الأحد 29 سبتمبر 2024: عبر عن مشاعرك بصدق    "100 يوم صحة" تقدم أكثر من 91 مليون خدمة طبية خلال 58 يومًا    ضبط 27 عنصرًا إجراميًا بحوزتهم مخدرات ب12 مليون جنيه    «الداخلية» تطلق وحدات متنقلة لاستخراج جوازات السفر وشهادات التحركات    سيدة فى دعوى خلع: «غشاش وفقد معايير الاحترام والتقاليد التى تربينا عليها»    وزير التعليم العالى يتابع أول يوم دراسي بالجامعات    عيار 21 بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الذهب اليوم الأحد في مصر تثير دهشة الجميع «بيع وشراء»    «شمال سيناء الأزهرية» تدعو طلابها للمشاركة في مبادرة «تحدي علوم المستقبل» لتعزيز الابتكار التكنولوجي    باحثة تحذر من تناول أدوية التنحيف    أحمد عمر هاشم: الأزهر حمل لواء الوسطية في مواجهة أصحاب المخالفات    في اليوم العالمي للمُسنِّين.. الإفتاء: الإسلام وضعهم في مكانة خاصة وحثَّ على رعايتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. أسامة السعيد يكتب من بورتسودان عن: الأزمة الإنسانية بالسودان.. الجرح لا يزال ينزف 3- 3
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 28 - 08 - 2024

فى الحروب يمكن أن يكون هناك طرف رابح وآخر خاسر، لكن عندما نأتى إلى البُعد الإنساني، فإن الحقيقة المؤلمة التى يدركها الجميع، أن كل الأطراف خاسرة!
هذه هى حقائق الحرب عبر الأزمنة، الجميع يتجرع من كأس الألم، مَن يتقاتلون، ومَن يحيطون بساحات القتال، ومَن يهربون طمعًا فى النجاة بأرواحهم وربما بممتلكاتهم من جحيم الموت المُتطاير فى كل اتجاه، فما بالنا إن كان طرفا الحرب هم أبناء شعب واحد.
فى السودان الألم يبدو مضاعفًا، فالمتقاتلون سودانيون، والضحايا كذلك.
ورغم أن حصر الضحايا فى بضعة أرقام هو بحد ذاته اختزال غير إنسانى لحجم المأساة، لكن حتى تلك الأرقام المُتعلقة بعدد ضحايا الحرب بالسودان تبدو عصية على الحصر ويكتنفها الغموض، مثل أمورٍ كثيرة تتعلق بتلك الحرب غير التقليدية.
وبحسب إفادة سابقة، لوزير الصحة السوداني، هيثم محمد إبراهيم، فإن كل الإحصاءات عن ضحايا الحرب مجرد «أرقام تقديرية»، إذ لا توجد آلية رسمية لإحصاء الضحايا إلا عندما يصلون إلى المستشفيات، بينما الغالبية العظمى من أولئك الضحايا لا يستطيعون الوصول إلى المراكز الصحية، ومن ثم يصعب إدراجهم فى الإحصاءات الرسمية، فضلًا عن اضطرار العديد من العائلات السودانية وبخاصة فى المناطق التى شهدت معارك محتدمة وقتالًا داميًا بين القوات المسلحة و«الدعم السريع» إلى دفن الموتى تحت بيوتهم أو فى أراض خلاء، نتيجة صعوبة دفنهم بالمقابر بسبب احتدام القتال أو إغلاق الأحياء السكنية.
الغموض يبدو أقل حدة عند النظر إلى وجهٍ آخر من أوجه المعاناة وهو المتعلق بأزمة النزوح، إذ تشير التقديرات إلى أن ما بين 10 إلى 12 مليون سودانى (أى ما يزيد على 20% من السكان) نزحوا داخل السودان وخارجه، وبسبب ذلك النزوح القسرى تمزقت أسر، إن لم يكن بالموت فبالفرار منه!
منظمات الأمم المتحدة تقدم صورة قاتمة عن الوضع بالسودان، إذ تصف الكارثة الإنسانية فى السودان بأنها من أسوأ الكوارث فى العالم، وتشير تقارير تلك المنظمات إلى أن الملايين من المدنيين يعانون من نقص الغذاء والدواء والخدمات الأساسية، بينما يتعرضون للقتل والتشريد والاعتداءات الوحشية فى مناطق الصراع.
رسميًا، أعلنت وزارة الصحة السودانية تفشى وباء الكوليرا فى البلاد جراء نقص الخدمات الصحية وتأثر مناطق واسعة بصعوبات وتحديات جمة فرضتها الحرب، وقد تصادف ذلك الإعلان مع وجودنا فى مدينة بوتسودان التى صارت العاصمة المؤقتة للبلاد، فضاعف الأمر من قلقنا وتعاطفنا مع ما يشهده الأشقاء السودانيون، الذين يواجهون صنوفًا من الموت بالرصاص حينًا، وبالأمراض ونقص الخدمات أحيانًا أخرى.
أحدث تقارير برنامج الأغذية العالمى التابع للأمم المتحدة، حذر من أن أزمة الجوع بالسودان ستصل لمستويات غير مسبوقة ما لم يحدث تدفق مستمر للمساعدات عبر جميع الممرات الإنسانية الممكنة، مُقدرًا أن نصف سكان السودان، بحاجة إلى المساعدة الإنسانية والحماية، ويُواجه ما يقرب من 18 مليون شخص انعدام الأمن الغذائى الحاد، وفقًا لأرقام الأمم المتحدة.
اقرأ أيضًا| د. أسامة السعيد يكتب من بورتسودان عن: الحرب فى السودان بين السلاح والسياسة 2- 3
قصص مؤلمة
كل التقديرات والأرقام لا يمكن أن تجسد حجم وعمق المعاناة كما تستشعرها وأنت تستمع إلى قصصٍ مؤلمة من عمق المأساة وعلى أرض الواقع على ألسنة الضحايا أنفسهم.
فى بورتسودان طلبت زيارة أحد مراكز الإيواء التى تقيمها الحكومة السودانية بالتعاون مع بعض المنظمات الدولية، فوافقت السلطات هناك على زيارة لمركز إيواء أقيم على أطراف المدينة فى مبنى كان مخصصًا قبل الحرب لسكن طالبات الجامعة، لكنه تَحَوَّل بعد الحرب وتوقف العملية التعليمية إلى مركز يستضيف مئات الأسر الفارة من جحيم الحرب من مدن وولايات سودانية عدة.
فى ذلك المركز تتجاور سيدات بصحبة أطفالهن، جئن من الخرطوم وأم درمان ودارفور والجزيرة، والأحدث جئن من ولاية سنار ومنطقة سنجة، وهى من المناطق التى دخلها «الدعم السريع» مؤخرًا، واضطر أهلها للفرار بعشرات الآلاف خوفًا من الاعتداءات وعمليات النهب والاغتصاب التى عانى منها سكان مدن وقرى أخرى.
فى مركز الإيواء الذى تكسو الكآبة والصمت معظم مبانيه المتهالكة، استمعت إلى حكايات مؤلمة من أمهات دفعن ثمنًا فادحًا لقتال لا ناقة لهن فيه ولا جمل.
هذه أم أخذت تبكى وهى تروى كيف فَرَّت من مدينة الخرطوم مفزوعة عندما هاجم «الدعم السريع» والعديد من السجناء الفارين المجمع السكنى الذى كانت تقطنه، لم يمهلهم المهاجمون سوى 10 دقائق لمغادرة الحى الذى كانوا يقيمون فيه، فلم تتمكن وأسرتها من الخروج سوى بالثوب الذى كانت ترتديه، مصطحبةً أصغر أبنائها، بينما فَرَّ الأب مع طفلين آخرين فى اتجاهٍ مختلف، ولم يلتئم إلى الآن شمل الأسرة، بينما عجز كبار السن من أفراد الأسرة عن خوض رحلة الفرار التى تتطلب انتقالًا بالشاحنات وسيرًا على الأقدام لمسافات طويلة، ففضلوا البقاء فى مساكنهم ليواجهوا مصيرًا مجهولًا.
إحدى المدرسات وتدعى «هويدا» تحدثت بأسى عن أسرتها التى تفرقت بين عدة دول، فذهب البعض إلى مصر والآخر إلى ليبيا، بينما فضلت هى البقاء بصحبة أبنائها الستة ونزحت بهم إلى بورتسودان، سألتُها من أين تنفق على أسرتها؟ فأشارت إلى أن الحكومة تصرف للموظفين حاليًا جزءًا من رواتبهم ويأتى بصورة متقطعة، بينما تقوم بعض المنظمات الإغاثية بصرف بعض المنح لعددٍ من الأفراد المسجلين.
عاودتُ سؤالها عن قيمة ذلك الدعم الذى يمكن أن يحصل عليه المسجلون من المنظمات الإغاثية؟ فأجابت بأنه يبلغ 11 ألف جنيه سودانى (أقل من 5 دولارات) شهريًا، وأضافت لكى توضح مدى المعاناة: أن ذلك المبلغ لا يكفى لشراء 5 كيلوجرامات من دقيق الخبز!!
لكن العديد من السيدات اللاتى التففن حولى داخل مركز الإيواء ظنًا منهن بأننى مندوب لإحدى المنظمات الإغاثية، أخذن يحسدن السيدة «هويدا» على أنها تقيم فى خيمة، بينما هن يقمن وأطفالهن تحت ظل الأشجار التى تحيط بسور مركز الإيواء بانتظار تسجيلهن وصرف منح إعاشية أو تقديم بعض الأغذية أو حتى إيوائهن فى خيمة تقيهن بعضاً من حر الصيف وبرد الشتاء.
نقص الخدمات الإغاثية
وبالفعل يُواجه السودان نقصًا حادًا فى الدعم المقدم من منظمات الإغاثة الدولية، وهو ما كان محل انتقاد كبير من عددٍ من المسئولين السودانيين الذين التقيتهم فى بورتسودان، ومنهم الفريق إبراهيم جابر عضو مجلس السيادة السوداني، والمسئول عن الملف الإنسانى والإغاثي، والذى أشار فى مقابلة خاصة معه إلى أن عدد النازحين داخل السودان يزيد على 10 ملايين نازح، نحو 7.5 مليون منهم دخلوا إلى مناطق آمنة بالمدن والمناطق التى يسيطر عليها الجيش السوداني، ومعظم هؤلاء يعيش فى كنف أقارب لهم بتلك المدن، والقليل منهم (فى حدود مليون شخص) اضطر إلى البقاء فى مراكز للإيواء، وهو ما اعتبره من صور التكافل الاجتماعى التى أبرزتها الحرب، والتى اتخذت صورًا شتى مثل فتح التكايا لإطعام النازحين وإيوائهم، والعديد منهم ليسوا من المواطنين السودانيين فقط بل من سوريا وإثيوبيا وجنوب السودان وغيرها وكانوا يقيمون منذ سنوات بالسودان.
ويشير الفريق جابر إلى أن أكبر قدر من المساعدات الإغاثية جاء من مصر وبعض الدول العربية بنسبة 65%، منتقدًا ما يصفه ب«تسييس» العمل الإغاثى فى بعضِ الأحيان و«المعايير المزدوجة» فى التعامل مع الملف الإنساني.
ويوضح أن السلطات السودانية فتحت العديد من المعابر لدخول المساعدات وأبدت كل أوجه التعاون مع المنظمات الإغاثية، لكنه يعتبر ما يصل إلى السودان ليس سوى نزر يسير من احتياجاته وجزء ضئيل للغاية لا يتجاوز 16 مليون دولار، مما تعهد به المانحون فى مؤتمر باريس (المؤتمر رعته فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبى أبريل الماضى وخرج بالتزامات تجاوزت مليارى يورو كمساعدات إنسانية)، بينما فى المقابل تَمَّ نهب مخازن العديد من المنظمات الإغاثية، منها على سبيل المثال 1.5 مليون طن من مخزونات برنامج الأغذية العالمى (WFP)، فضلًا عن تدمير العديد من المشروعات الزراعية التى كانت توفر قدرًا كبيرًا من الاحتياجات الغذائية للسودانيين والاستيلاء من جانب «الدعم السريع» على قوافل الإغاثة، وهو ما يعتبره عضو مجلس السيادة السودانى «خطة ممنهجة لتجويع السودانيين».
ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة «فاو»، فقد تراجع إنتاج الحبوب فى السودان بنسبة 40 % عن متوسطه خلال 5 سنوات، وذلك بسبب تأثير الحرب وانعدام الأمن على العمليات الزراعية، ما أدى لتضاعف أسعارها 3 مرات عن مستوياتها فى يناير 2023.
ارتفاع هائل للتضخم
سألتُ وزير المالية السودانى جبريل إبراهيم، خلال لقائنا معه بمقر الوزارة، عن معدل التضخم بالسودان بعد الحرب، فأشار إلى أنه يقدر رسميًا بنحو 164% خلال النصف الأول من العام الحالي، وكان قد بلغ قبل الحرب 64%، وكان مأمولًا النزول به إلى رقم مفرد عام 2024، لكن الحرب جاءت لتربك كل شيء.
واعتبر إبراهيم أن الانهيار الاقتصادى كان أحد مستهدفات الحرب، خاصة فى مرحلتها الأولى، عبر السيطرة على ولاية الخرطوم التى يأتى منها نحو 80% من الإيرادات الضريبية، وتتمركز بها المؤسسات العامة ومقار الشركات والبنوك الكبرى، وكل تلك المؤسسات تم نهبها بشكلٍ ممنهج.
وأوضح أن الحكومة نجحت فى امتصاص الصدمة، لكنها تُواجه تحديات فى إدارة موارد الدولة فى ظل الحرب، وتحاول التخفيف عن المواطنين الذين يعانون جراء تداعيات الأزمة، فيتم حاليًا صرف 60% من رواتب الموظفين و100 % من أجور العمال، لكن هناك عقبات عديدة فى وصول تلك الأموال خاصة للنازحين فى دولٍ أخرى.
وبالفعل تسببت الحرب فى خسائر اقتصادية فادحة، كانت لها تداعيات اجتماعية كارثية.. فقطاع الصناعة - وفق الأرقام الرسمية - خسر 50 مليار دولار حتى الآن، وتم تدمير 3 آلاف مصنع، وتكبد القطاع الصحى خسائر قدرت بنحو 11 مليار دولار، إضافة إلى تدمير ونهب كل المقار الحكومية والمؤسسات التعليمية بشكل شبه كامل.
وتوقفت الأنشطة الاقتصادية بصورة شبه كاملة فى الولايات التى تشهد أعمالا قتالية، وتدفق النازحون هربًا منها، الأمر الذى فاقم من معدلات البطالة.
جراح لا تندمل
وإذا كانت بعض جراح الحرب يمكن أن تندمل بمرور الوقت، فإن جراحاً أخرى ربما تحتاج لسنوات طويلة من المُداواة، ومن تلك الجراح ما نجم عن اعتداءات خلال الاشتباكات التى عرفتها العديد من المدن والولايات السودانية، فآلاف الأسر والعائلات فقدت كل ما تملك، وبات المستقبل بالنسبة إليهم مجهولًا.
وحالات تُقدر بالآلاف من النساء والفتيات تعرضن للاغتصاب والعنف الجسدى والاتجار فى البشر، وهذه مسألة لها حساسيتها فى مجتمع محافظ كالمجتمع السوداني، ولذلك يتم التعامل مع هذا الملف بحذرٍ بالغ وفق ما تحدث به النائب العام السودانى الفاتح طيفور، عندما استقبلنا فى لقاءٍ موسع لاستعراض بعض من التحقيقات التى تجريها الأجهزة القضائية السودانية فى الجرائم التى ارتكبت فى المدن والمناطق التى دخلها «الدعم السريع».
النائب العام السودانى أشار إلى توثيق 212 حالة اغتصاب، لكنه أعرب عن اعتقاده بأن هذا العدد لا يتجاوز 2% فقط من إجمالى عدد الحالات التى يمكن توثيقها ووصولها إلى الأجهزة القضائية، فضلًا عن العديد من الحالات الأخرى التى يصعب وصولها إلى القضاء، نتيجة حساسية الموضوع واعتباره «وصمة اجتماعية» تجبر الكثير من الضحايا على عدم الاعتراف به، رغم أنهن ضحايا لا ذنب لهن فى تلك الجريمة.
الأطفال أيضًا كانوا فى مقدمة ضحايا تلك الحرب، فبحسب إحصاءات الأجهزة القضائية السودانية، تم تهجير أكثر من 4 ملايين طفل، وتجنيد نحو 6 آلاف طفل فى صفوف «الدعم السريع»، قُتل منهم خلال المعارك 4850 طفلًا، فضلًا عن موت وإصابة آلاف الأطفال نتيجة عمليات القتال أو تضرر المراكز الصحية وعدم تلقى هؤلاء الأطفال الرعاية الصحية اللازمة.
منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف» كانت قد أشارت إلى أن 19 مليون طفل سودانى أصبحوا غير ملتحقين بالمدارس، بينهم 4 ملايين نازح، بما يجعل السودان إحدى أكبر أزمات نزوح الأطفال بالعالم.
وقَدَّرت منظمة إنقاذ الطفولة فى فبراير الماضي، أن أكثر من 2.9 مليون طفل يعانون من سوء التغذية الحاد، و729 ألف طفل إضافى دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد، وهو أخطر أشكال الجوع الشديد وأكثرها فتكًا، وتوقعت المنظمة أن يعانى 109 آلاف طفل من مضاعفات طبية مثل الجفاف وانخفاض حرارة الجسم ونقص السكر بالدم، وأن يموت نحو 222 ألف طفل يعانون سوء التغذية الحاد الشديد، وأكثر من 7 آلاف أم جديدة خلال الأشهر المقبلة ما لم تلبَّ احتياجاتهم الصحية.
الجرائم التى تعمل النيابة العامة السودانية على التحقيق فيها وإحالتها للقضاء متعددة ومتنوعة وتكشف جانبًا مما عاناه السودانيون جراء الحرب، والتى تصل إلى حد ارتكاب جرائم إبادة جماعية فى مناطق الجنينة بدارفور، وقتل للأسرى بطرق وحشية، وحرق للقرى وحقول المزارعين ومخازن الغلال، واستخدام لمرتزقة من 12 دولة على الأقل لارتكاب جرائم على أرض السودان.
كلمة أخيرة
كل ما سبق، وتعرضنا له خلال المقالات الثلاثة التى تُواكب مرور 500 يوم من الحرب بالسودان، مجرد ملمح بسيط من صورة قاسية وبالغة التعقيد والتشابك، لبلدٍ عانى عبر تاريخه الكثير من المحن والأزمات، لكنه يُواجه اليوم واحدًا من أصعب وأدق منعطفاته، وتبدو الخيارات فى ظل تلك الحرب الطاحنة صعبة، والتداعيات خطيرة، وهو ما يجعل وقف الحرب ضرورة قصوى، والتمسك بوحدة أراضى ومؤسسات الدولة السودانية حتمية لا تقبل أية تنازلات.
مرور 500 يوم من الحرب فى السودان يؤكد الحاجة الماسة للتعاطى الإيجابى مع الأدوار الحميدة التى تقوم بها مصر لوقف الحرب واحتواء تداعياتها الكارثية ليس على السودان فقط بل على الإقليم برمته، فمصر لا تبتغى سوى أمن واستقرار السودان، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من منظومة الأمن القومى المصري، واستراتيجيتها الراسخة والمتواصلة هى مساندة الشعب السودانى والوقوف إلى جانب أبنائه ليقرروا مستقبلهم ويحددوا مصيرهم ومسارهم بإرادتهم الحرة، فى مواجهة تحديات عديدة داخلية وخارجية، والخطر كل الخطر يكمن فى استمرار تلك الحرب وتوسع نطاقها.
حفظ الله مصرنا وسوداننا.. وجَنَّب شعب وادى النيل شر المخاطر والأزمات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.