محمد سلماوى قصة هذا اللقاء فى شتاء عام 2005 وبالتحديد فى يوم السبت الموافق 10 ديسمبر، أى فى اليوم السابق مباشرة ليوم عيد ميلاد كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ الرابع والتسعين، وهو آخر عيد ميلاد احتفل به كاتب نوبل قبل وفاته، كان عندى موعد لزيارته فى منزله كعادتى فى تمام الساعة السادسة مساء يوم السبت من كل أسبوع، وحين أقول تمام السادسة فأنا لا أستخدم التعبير الدارج فى تحديد الساعة، وإنما أصف بدقة الموعد المحدد والثابت الذى كنت أدق فيه جرس باب شقته بالدور الأول فى العمارة التى كان يسكنها على كورنيش العجوزة، فقد كان الأستاذ كما يعرف الجميع دقيقا كل الدقة فى مواعيده، وكان كل شيء عنده له موعد لا يخالفه، وكثيرا ما كان يسألنى عن الساعة لضعف نظره، وحين كنت أجيبه كان يقول: إذن هو موعد السيجارة! كان الطبيب قد حدد له عدد السجائر التى يدخنها فى اليوم الواحد بثلاثة فقط، فقام محفوظ بتوزيعها على اليوم فى مواعيد ثابتة لم يكن يحيد عنها. فى ذلك اليوم وضعت يدى على جرس باب شقته فى تمام الساعة السادسة مساء ففوجئت به يفتح لى الباب بنفسه ولم تفتحة السيدة زوجته أو إحدى إبنتيه كما جرت العادة، واستغربت ذلك حيث كان سمع الأستاذ قد ضعف فى سنواته الأخير، وكان يستعين بجهاز سمع يضعه فى أذنه اليسرى، وبسبب ذلك لم يكن يسمع جرس الباب. انتظرت حتى دلفنا إلى غرفة الصالون التى كنا نجلس فيها وقلت له: من الواضح يا أستاذ نجيب أن سمعك تحسن قليلا، فقال: لا، هو كما هو، قلت: لكنك سمعت جرس الباب، فابتسم وهو يقول: لا، لم أسمعه، لكنى أعرف أن مواعيدك دقيقة، فتابعت الساعة إلى أن دقت السادسة فقمت لأفتح الباب وأنا واثق أننى سأجدك أمامى. ثم ضحك ضحكته المجلجلة التى يتذكر كل من جالسه كم كانت تملأ المكان بهجة. لقد ظللت طوال 12 عاما، ومنذ تعرض لمحاولة الاغتيال الآثمة فى نوفمبر عام 1994 وحتى رحيله فى مثل هذه الأيام من عام 2006، ألتقى بأديبنا الأكبر أسبوعيا فأدير جهاز التسجيل الصغير الذى أحمله معى ونتناقش فى مختلف الموضوعات لأقوم بعد ذلك بالاستماع للشريط المسجل واختيار موضوع يصلح للنشر فى الزاوية التى كانت تنشر صباح كل خميس فى جريدة «الأهرام» بعنوان «حوارات نجيب محفوظ»، وكان من بين الموضوعات التى تحدثنا فيها فى ذلك اليوم قصصه متناهية القصر التى كان ينشرها آنذاك بعنوان «أحلام فترة النقاهة»، والتى تمثل آخر إبداعاته الأدبية، وفى نهاية حديثنا طلبت من الأستاذ نجيب إعطائى ثلاثة من أحلامه غير المنشورة لأنشرها فى مجلة «ضاد» التى كنت قد أسستها فى اتحاد الكتاب وكنت أرأس تحريرها، وذلك ضمن العدد الاحتفالى الذى كنا نعد لإصداره بمناسبة عيد ميلاده ال94. وبمراجعة الشريط المسجل عليه لقاءنا فى ذلك اليوم وجدت استكمالا لحديث سابق عن الدكتور طه حسين نشر فى حينه فى الأهرام بمناسبة ذكرى ميلاد عميد الأدب العربى فى شهر نوفمبر، وبعض ذكريات الطفولة مع شلة أصدقاءه فى العباسية، بالإضافة للحوار الذى دار بيننا حول «أحلام فترة النقاهة»، تلك اللآليء النادرة التى وضع فيها محفوظ خلاصة حكمته فى الحياة الممتدة لأكثر من تسعة عقود، والتى لم يتجاوز فيها كل حلم بضعة أسطر حملها محفوظ من المعانى والدلالات ما كان أى كاتب آخر يحتاج لصفحات طويلة لكى يسرده، وقد وجدت أننى قمت بتفريغ الجزء الخاص بالأحلام فى الشريط المسجل وكتبت له العناوين والمقدمة، فجاء أكبر من المساحة المخصصة لزاوية «حوارات نجيب محفوظ» الأسبوعية، لكنى لم أختصره، وظل نصه المكتوب محفوظا مع الشريط المسجل فى خزانتى طوال السنوات الماضية. وكان الصديق العزيز الأستاذ ياسر عبد الحافظ رئيس تحرير «أخبار الأدب»، ذلك الإصدار الأدبى الذى يعتز به كل مثقف، قد طلب منى موضوعا عن نجيب محفوظ أساهم به فى مناسبة الإحتفال بالذكرى ال18 لرحيل أديبنا الأكبر، فقررت أن تكون مساهمتى بنشر كلمات نجيب محفوظ التى تحدث بها فى ذلك اللقاء، وهل هناك أفضل من كلمات محفوظ نفسه فى مناسبة ذكراه..وفى كل مناسبة؟! محفوظ: عبد الناصر جاء نى فى المنام يطلب منى أكل الخبز الصعيدى أخذنا أديبنا الأكبر نجيب محفوظ منذ عام 1999 إلى عالم الأحلام التى اختار أن تكون هى مصدر إلهامه فيما يكتب الآن من أقاصيص قصيرة يسميها «أحلام فترة النقاهة» وينشر لنا منها ثلاثة «أحلام» كل شهر فى مجلة «نصف الدنيا»، ويؤكد الأستاذ نجيب محفوظ أن صيغة الحلم التى اختارها لهذه اللآلىء مع القصيرة ليست مجرد إطار أدبى اختاره لتقديم قصصه وإنما هى أحلام بالفعل رآها أديبنا الأكبر فى منامه وقام من نومه ليدونها ويعمل فيها قلمه العظيم كى تتحول فى النهاية إلى «أحلام فترة النقاهة». ولقد تسابقت دور النشر العالمية بمجرد أن نما إلى علمها أن أديب نوبل المصرى يقوم بنشر إنتاج جديد له، لتنشر هذه «الأحلام»، وكانت أول من أصدرها هى دار «لو روشيه» الفرنسية ثم تبعتها الطبعة الإنجليزية التى أصدرتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة إلى أن صدرت أخيراً الطبعة العربية التى نشرتها دار الشروق فى العام الماضى. ولقد قلت فى المقدمة التى كتبتها للطبعة الفرنسية إن «أحلام» نجيب محفوظ هى أقرب ما يكون لشعر ال «هايكوى» مع اليابانى الذى تتألف فيه القصيدة من بيتين أو ثلاثة على الأكثر لكنها تحمل معنى إنسانياَ كبيراًَ قد تعجز عن التعبير عنه القصص الطويلة، ففى هذه «الأحلام» يصل محفوظٍ إلى درجة من التركيز والاختصار غير معتادة فى القصص العربى المائل أبدا إلى الإسهاب والتطويل. هذا من ناحية الشكل الفنى، أما من ناحية المضمون فإن «الأحلام» تعبر عن نظرة فلسفية تسمو بالحياة فوق الأحداث اليومية وتعبر عن قدر من السكينة لا يصل إليها الكاتب إلا بعد أن يكون قد مر بجميع مراحل الحياة وخبر جميع تقلباتها فوصل إلى مرحلة من الحكمة تشى بها كل كلمة يكتبها، ومن هذا المنطلق فإن «أحلام» نجيب محفوظ تماثل الرباعيات الأخيرة لبيتهوفن التى تبتعد عن صخب سيمفونياته التسع الكبيرة لتقدم لنا فى بساطة متناهية حكمة الحياة ذاتها مستخدمة أربعة فقط من الآلات الوترية. ولقد سألت الأستاذ كيف تأتيه هذه «الأحلام» وكيف يكتبها؟ فقال: هى تأتينى بالفعل كأحلام آراها فيما يراه النائم وأتذكرها حين أصحو فأدونها، أما كيف أكتبها فإنى أعمل على كل حلم منها بالتعديل والتبديل حتى يتحول من حلم خام إلى عمل أدبى له قوامه. قلت: وهل يصلح كل حلم تعمل فيه قلمك أن يتحول إلى عمل أدبى؟ قال: بالطبع لا، وهناك من الأحلام ما أتذكره جيداً فى اليقظة لكنى أستبعده لأنه لا يصلح أن يتحول إلى عمل أدبى، كما أن هناك أحلاما أخرى أعمل فيها كثيراً لكنها تستعصى على وتأبى أن تخضع للأصول الأدبية لذلك أضطر آسفاً أن أتركها. قلت: وما هو الحلم الذى يشغلك الآن؟ سكت الأستاذ قليلاً ثم قال بصوته الرخيم: «لقد أتانى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وقدم لى خبزاً أسمر من خبز الصعيد الشمسى، ثم نظر إلى بعينيه الثاقبتين وقال لى: «كل هذا!». وسكت الأستاذ ثانية ونظر أمامه فى الفراغ فلم أقاطع صمته إلى أن عاد ينظر إلى وهو يقول: «إنه حلم قوى أشعر به فى أعماقى لكنى لا أعرف ماذا أفعل به، إنى أود أن أكتبه لكنى حتى الآن عاجز تماما عن معالجته وكأنه أقوى منى» . وانتظرت ثانية إلى أن تأكدت أنه قال لى ما يريد أن يقوله حول ذلك الحلم ثم سألته: و«هل يجب أن تتحكم فى الأحلام حتى تستطيع إخضاعها لقلمك الأدبى؟ قال على الفور: «بالطبع، فالحلم بالنسبة لى هو المادة الخام التى أعمل بها وما لم أتمكن من تشكيلها فى يدى كالطينة التى يصنع منها الفنان قطعة الخزف فإننى لا أقربها. قلت: كان كاتب روسيا الكبير ليوتولستوى يقول إنه كثيراً ما كان يصحو من نومه على فكرة طرأت له كان يبحث عنها دون جدوى قبل أن ينام فهل تعتقد أن بعض أحلامك تأتى كرد من العقل الباطن على بعض ما كان يشغلك فى اليقظة؟ قال: ربما، لكن هذا لا ينطبق على كل الأحلام، فهناك أحلام أعرف أنها ليست متصلة بما كنت أفكر فيه أثناء اليقظة، وهناك البعض الآخر الذى أجده امتدادا لما يشغلنى فى يقظتى. قلت: فى «أحلام فترة النقاهة» وصلت يا أستاذ نجيب إلى التعبير عن شعور غريب بالسكينة لا يأتى إلا لمن وصل إلى الحكمة الكلية، والآن وقد وصلت إلى سن ال 94، ما هو سر احتفاظك بحيويتك وإقبالك على الحياة؟ قال: الحكمة هى أن يعرف الإنسان حدود كل مرحلة سنية يمر بها، ويحاول ألا يتخطى حدودها. قلت: لكنك تتحدى دائماً ظروفك وتنجح فى تخطى هذه الحدود، والدليل هذه «الأحلام» التى تغلبت فيها على عدم مخالطتك الحياة اليومية كما كنت تفعل بما احتفظت به فى ذاكرتك عن هذه المخالطة، والتى تغلبت فيها أيضاً على عدم قدرتك على الكتابة الفعلية مستعيناً بالكتابة الذهنية التى تمليها فى النهاية بدلاً من أن تكتبها. قال: إن إدراك الحدود لا يعنى الانسحاب من الساحة وإنما التعامل معها بما يضمن الاستمرار وهذا هو ما أعمله. قلت: أعرف أنك كنت تكتب «الأحلام» بيدك حين بدأتها عام 1999، لكنك هذا العام فقط أصبحت تمليها. قال: هذا صحيح وقد كانت كتابتى لها تسمح لى أن أغير وأبدل على الورق، فأعيد كتابتها مرات إلى أن أصل إلى الصياغة النهائية لها، لكن يدى تعبت فبدأت هذا العام فقط أملى لأول مرة فى حياتى، وقد كنت فى الماضى أتعجب كيف يستطيع د. طه حسين مثلا إملاء رواياته لأن عملية الكتابة كانت بالنسبة لى جزءاً لا يتجزأ من العملية الإبداعية ذاتها، وكأن القلم هو أصبعى السادس الذى بدونه لا أستطيع أن أكتب لكن الإنسان يتأقلم مع الواقع، وها أنا أجد نفسى مضطراً بعد هذه السنوات إلى الإملاء، أى أننى أدركت الحدود التى لم تعد تسمح لى بالكتابة بيدى فقبلتها وتحولت إلى الإملاء من أجل الاستمرار فى الكتابة. قلت: لقد قال لى الأستاذ إحسان عبدالقدوس ذات مرة إنه بمجرد أن ينتهى من الكتابة الأولى لأى من قصصه القصيرة التى كان ينشرها أسبوعياً فى مجلة صباح الخير فإنه يدفع بها على الفور إلى المطبعة لأنه يعرف أنه كلما عاد لقرائتها فإنه سيغير فيها، فهل تعيد قراءة ما تمليه أم أن الإملاء الأول هو الأخير؟ قال لا تنس أن إحسان كان صحفياً أيضاً وقد كتب الكثير من قصصه بغرض النشر فى مجلته، لذلك فقد كان يعمل وسيف المطبعة مسلط عليه، والعاملون بالصحف يعرفون جيداً أن المطبعة يجب أن تدور فى موعدها وأنها لا تنتظر من يظل يغير ويبدل فيما يكتب، أما أنا فإنى أغير وأبدل كثيراً، وإذا اطلعت على النسخة الأولى من بعض رواياتى ستسخر منها. قلت: أعرف أنك لا تحتفظ أبداً بمسوداتك. قال: نعم فأنا أمزق النسخ القديمة بمجرد أن أصل إلى الصيغة النهائية وفى النهاية لا يبقى لدى من رواياتى إلا النسخ المطبوعة التى يرسلها لى الناشر، وتلك كنت عادة أفرقها على أصدقائى فلا يبقى منها إلا الذكرى الحسنة. أما بالنسبة «للأحلام» فإن العملية صعبة جداً لأنى أغير وأبدل فيها فى ذهنى إلى أن أصل بها إلى شكلها النهائى، ثم يكون على بعد ذلك أن أتذكرها جيداً حتى يحين وقت الإملاء فأقوم بإملائها، ومن أجل ذلك فإن على أن أحفظ كلاً من هذه الأحلام عن ظهر قلب لأنه يحدث مثلا أن الحاج صبرى الذى أملى عليه الأحلام لا يأت لسبب أو لآخر فيصبح على أن أنسى الحلم حتى أستطيع إملاءه عليه حين يأتى بعد ذلك. وتذكرت كيف وجدت الأستاذ مهموماً حزيناً فى احدى زياراتى له السابقة فسألته: كيف حالة يا أستاذ نجيب؟ فقال فى ضجر: زى الزفت! قلت: ليه لا سمح الله؟ فشرح لى أن الحاج صبرى قد سقط من الأتوبيس وكسرت ساقه وهو لم يعد يأتيه الآن ليقوم بإملائه أحلامه الجديدة، والتى يخشى مع الوقت أن ينساها. فطيبت خاطره وطمأنته أن الحاج صبرى يتعافى الآن وأنه سيعود إليه مع بداية الشهر، وقد حدث بالفعل فعاد الأستاذ يملى أحلامه من جديد وعادت البسمة إلى وجهه الذى يبدأ غداً الأحد عامه ال 95 . قلت: كل سنة وأنت طيب وأحلامك بخير.. لقد جرت العادة أن يتلقى صاحب عيد الميلاد الهدايا من مهنئيه، أما أنا فسأطلب منك أن تهدينا بمناسبة عيد ميلادك أحدث «أحلامك» فأحضر لى مظروفاً أبيض كبيراً وقال لى انتق منها ما يعجبك، فأخدت «الأحلام» التالية لأنشرها بمناسبة عيد ميلاده.