استأنف بنيامين نتانياهو مماطلاته، للحيلولة دون وقف إطلاق النار فى غزة، متجاهلًا الجهود المبذولة فى هذا الصدد، وكذلك ضغوطات عائلات المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس، واستجابته فقط لأصوات اليمين فى ائتلافه المتطرف، التى ترفض وضع أوزار الحرب قبل ما تصفه ب«التخلُّص نهائيًا» من المقاومة فى القطاع. لكن تقديرات الواقع الإسرائيلى لا تستبعد فقط التوصل إلى اتفاق، وإنما استبعدت أيضًا انسحاب قوات الاحتلال من القطاع قبل عشر سنوات! ورغم ضلوعها المعلن فى محاولات وقف إطلاق النار، تشاطر الإدارة الأمريكية نتانياهو وحكومته جانبًا من المماطلة، إذ اقتصر دور وزير الخارجية أنتونى بلينكن خلال جولته الأخيرة فى المنطقة على نقل شروط نتانياهو الجديدة إلى الوسطاء، لكنه عاد إلى واشنطن وهو يجر أذيال الخيبة، بعد فشله فى إقناع القاهرة والدوحة قبل حماس بقبول الشروط الإسرائيلية غير العادلة. اقرأ أيضًا | حصيلة الجولات التسع.. بلينكن يعود لواشنطن «بخفى حنين» ربما ساهم الرئيس الأمريكى جو بايدن هو الآخر فى إطالة أمد المماطلة الإسرائيلية؛ فبينما اعتاد الطواف بهاتفه قبل ذلك على القاهرة والدوحة وتل أبيب لحلحلة الأزمة، اكتفى بإصدار بيان فاتر بعد عودة بلينكن من جولته، أكد فيه اعتزامه الاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلى الأربعاء المقبل. وفيما لم تفسر أى جهة أمريكية أو حتى فى إسرائيل دواعى الاتصال المنتظر، لاسيما فى ظل وضوح التعنت الإسرائيلى، وطول قائمة الشروط المجحفة التى يصر نتانياهو على فرضها، بدا واضحًا انتظار بايدن مآلات تطور الأوضاع الأمنية بين إسرائيل وإيران، وكذلك بين الأولى و«حزب الله»، خاصة أن أى حراك فى هذا الخصوص يعيد التفاوض مع حماس وملف غزة ومستقبلها برمته إلى المربع رقم واحد. ولا يمكن مضاهاة صفقة تبادل الأسرى المحتملة بصفقات أخرى أبرمها نتانياهو مع حماس، فالصفقة التى جرى خلالها إطلاق سراح الجندى المخطوف جلعاد شاليط فى 2010، تختلف فى ملابساتها وحيثياتها، إذ لم يكن نتانياهو رغم تطرفه فى الحالتين محاطًا بطوق ائتلاف حكومى من أقصى اليمين (الصهيونية الدينية)، ولم يكن قد أدين فى قضايا فساد ورشوة وخيانة أمانة، ولم يكن الحل فى قطاع غزة حينئذ مرتبطًا بجبهات إقليمية أخرى، ولم تطل برأسها فى حينه أيضًا مشروعات إخلاء قطاع غزة من قاطنيه، ولا حتى جرأة برامج تهجير الفلسطينيين لإعادة احتلاله، علاوة على غياب التحولات السياسية الإقليمية التى فرضها ما يُعرف ب«الربيع العربي» على المنطقة. ربما كان لتلك الملابسات بالغ الأثر فى رفع سقف مطالب ومماطلات نتانياهو، التى وصلت دون إعلان مباشر حد بقاء قوات الاحتلال فى القطاع لمدة قد تربو على عشر سنوات، بحسب الباحث الإسرائيلى شالوم يروشليمى، الذى أشار فى هذا السياق إلى تقديرات رئاسة الوزراء الإسرائيلية، والتى نصَّت على أن «المرحلة الأولى من حرب غزة قد تمتد إلى عامين، ليتم فيها تصفية حماس، فضلًا عن ثمانى سنوات أخرى، تستقر فيها سلطة بديلة فى القطاع». وإلى جانب المماطلة، لا يستهدف نتانياهو بهذه الشروط ملف قطاع غزة فقط، وإنما يوجه به رسائل للداخل والخارج الإسرائيلى، لاسيما خصومه وفى طليعتهم الجنرال المدنى، رئيس تحالف «أبيض أزرق» بنى جانتس، إذ تفيد الرسائل بأن نتانياهو وليس غيره هو الأكثر خبرة وحنكة فى الحفاظ على أمن إسرائيل، وهو الأصلح للقيادة إذا فاضل الناخبون بينه ومنافس آخر؛ وربما لا تبعد الرسائل ذاتها عن آذان البيت الأبيض بغض النظر عن قاطنه؛ فنتانياهو الذى لاحظ استقبال إدارة بايدن وقبلها إدارة ترامب لجانتس، واستضافته فى المكتب البيضاوي، يود إزاحته نهائيًا من طريقه، وقطع دابر تفكير الداخل أو الخارج الإسرائيلى فى بديل غيره. ولا تبتعد مماطلة نتانياهو والتجاوب الأمريكى معها فى الوقت الراهن عن حسابات الانتخابات الأمريكية، إذ يعى نتانياهو جيدًا آليات الاحتكاك بالولايات المتحدة؛ فبمنظوره ورؤى حاشيته، لن يقبل الديمقراطيون بغير استرضاء حكومة «الليكود»، والتراجع عن الضغط عليها فى هذا التوقيت، تفاديًا لخسارة تطل برأسها أمام المنافس الجمهورى العنيد دونالد ترامب؛ وعساه نتانياهو لعب جيدًا على هذا الجواد، حين مرر رسائل علنية حاول فيها التقارب مع ترامب، الذى أدرك هو الآخر قواعد اللعبة. وأطلق تصريحه المثير: «أفكر فى ضيق مساحة إسرائيل وأرغب فى توسعتها». المحلل السياسى الإسرائيلى الشهير ناحوم بارنيع كان أكثر جرأة فى حسم تفاصيل المشهد، مشيرًا فى مقال بصحيفة «يديعوت أحرونوت» إلى أن «الحفل انتهى فى هذه المرحلة على الأقل، ونجح نتانياهو فى تصفية الفرصة الأخيرة لوضع نهاية للحرب فى غزة، وإعادة المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس. أما بيت قصيد الأزمة فيكمن فى إصرار نتانياهو على إثارة المصريين، وعدم الانسحاب من محور فيلادلفيا».