إن محكمة التاريخ تحكم بالإعدام على أولئك الذين يملكون من الحقائق أكثر مما يملكون من الوقائع، وأولئك الذين يملكون من العدالة أكثر مما يملكون من القوة، وفى ظل انفجار العالم ب 183 صراعاً مسلحاً إقليمياً عام 2023، والذى يُعد الرقم الأعلى منذ 30 عاماً، وفق المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية بخلاف 459 جماعة مسلحة تثير أنشطتها مخاوف إنسانية يعيش تحت سيطرتها الكاملة 195 مليون إنسان، فإن الوقوف على الأطلال هو الخطوة التى تسبق السقوط فى الهاوية، والذين لا يعتبرون من أخطاء الماضى مكتوب عليهم تكرارها مرة أخرى ولكن بصورة أكثر فداحة.. وأسوأ ما فى الحرب أننا نستخدم أفضل ما لدينا من أجل ممارسة أكثر الأفعال بشاعة، وهذا ما ترجمته السنوات الماضية وانعكس جلياً فى حرب تتفاقم فى غزة وشرق أوسط يغلى وانقسام عالمى مُستفحل وعملية إعادة تشكيل جيوسياسية، كل ذلك يدفع دفعاً نحو السقوط فى هاوية حرب عالمية ثالثة فى خضم نظام عالمى يقترب من نهايته سيغير قواعد اللعبة، بعد أن شهد عقوداً من نظام أحادى القطبية بذلت فيه أمريكا جهوداً لتظل المنفردة بمُقَدَّرات العالم.. فكيف سيكون شكل النظام العالمى الجديد ومن أين تُطلق القذيفة الأولى للحرب العالمية الثالثة؟.. هذا ما سنتعرض له فى هذا الحوار مع أندريه باكلانوف، نائب رئيس رابطة الدبلوماسيين الروس، أستاذ ورئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فى الجامعة الروسية للأبحاث الوطنية «المدرسة العليا للاقتصاد» ومساعد النائب الأول لرئيس لجنة مجلس الاتحاد الروسى للعلوم والتربية والثقافة، ونائب أول لرئيس جمعية الصداقة المصرية الروسية.. فى البداية.. حرب تتفاقم فى غزة وشرق أوسط يغلى وانقسام عالمي.. فهل يقترب النظام العالمى الحالى من نهايته؟ بصفتى دبلوماسياً يتمتع بخبرة تزيد على 50 عاماً، أعتقد أن الأزمة العسكرية السياسية الدولية اليوم تضم عدداً أكبر بكثير من المشاركين وتغطى ثلاث مناطق.. أولاً، مسرح العمليات العسكرية الأوروبية، حيث قد تشمل الاشتباكات على الأراضى الأوكرانية عدداً من الدول الأوروبية الأخري، وسيحدث هذا إذا ما زادت الدول الأوروبية الأعضاء فى حلف شمال الأطلسى من مشاركتها فى هذا الصراع. وعلى وجه الخصوص، السماح بتوجيه ضربات ضد القوات الروسية باستخدام الطائرات وقاذفات الصواريخ فى القواعد الموجودة على أراضيها. وحذرت روسيا من أن هذه القواعد ستكون أهدافاً مشروعة للضربات الانتقامية من قبل روسيا الاتحادية.. ثانياً، الشرق الأقصى، حيث تذكّر الصين بأن تايوان جزء لا يتجزأ من أراضيها تاريخياًٍ، وحيث تتوتر علاقات بكين مع واشنطن. وتسعى واشنطن إلى تشكيل كتلة عسكرية على غرار حلف شمال الأطلسى فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ.. ثالثاً، الشرق الأوسط، حيث تستفز الولاياتالمتحدة وإسرائيل، إيران ودول الخليج العربى فى الصراع. وماذا عن دور المنظمات والمؤسسات الدولية فى التعاطى مع ذلك؟ إننا نرى أن الأممالمتحدة ومجلس الأمن لا يقومان بالمهام التى حددها ميثاق الأممالمتحدة لحفظ السلام، والسبب الرئيسى هو الانقسام بين الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن وروسياوالصين من جهة والقوى الغربية من جهة أخرى، والآن تطرح العديد من الدول، بما فى ذلك تركيا، خططاً لإعادة تنظيم تركيبة مجلس الأمن والأممالمتحدة ككل. ومن وجهة نظري، تبدو هذه الخطط ساذجة للغاية، مثل التمني. المشكلة ليست فى هيكل مجلس الأمن، بل فى الانقسام بين الدول الرائدة فى العالم. فبدون العودة إلى العلاقات الطبيعية بين روسياوالولاياتالمتحدة، وبين روسيا والدول الغربية، وبين الولاياتالمتحدةوالصين، لن تعمل أى آليات دولية بفعالية. وهل نحن على أعتاب ولادة نظام عالمى جديد؟ يكثرُ الحديث اليوم عن أن احتكار الولاياتالمتحدةالأمريكية للقرار، والعالم الأحادى القطبية يتعارض مع مصالح غالبية سكان العالم. وهذا صحيح، فالتدابير الاحتكارية غير عادلة، و ينبغى ألا تلعب دولة واحدة، حتى لو كانت دولة غنية وقوية جداً، دور الشرطى فى العالم. ويزداد هذا الأمر خطورة لأن الولاياتالمتحدة تُظهِر نفسها كدولة لا تهتم إلا بمصالحها الخاصة وتسعى جاهدة للحفاظ على نظام سياسى واقتصادى غير عادل يعمل وفقًا لقرارات الولاياتالمتحدة والمعسكر الغربى ككل. ويجب أن يصبح عالم القطب الواحد جزءًا من الماضي.. ومن الواضح أنه يجب أن يكون النظام العالمى الجديد قادراً على حماية سيادة واستقلالية أى دولة، كبيرة كانت أم صغيرة. وحتى الآن، لم يقترح أحد نموذجاً يمكن أن يضمن السيادة.. ولكن روسيا اقترحت العودة إلى تنسيق الإجراءات داخل مجلس الأمن، فى الأممالمتحدة. ولهذه الغاية، طرحت موسكو مبادرة لعقد اجتماع للقوى العظمى الخمس. ومع ذلك، لم تقبل الدول الغربية هذه المقترحات.. لذلك، يمكن القول، للأسف، أنه لا توجد اليوم أدوات دولية قادرة على ضمان الحفاظ على السلام وسيادة الدول.. ولكن يجب إيجاد مثل هذه الأدوات، ويمكن أن يلعب التعاون المشترك فى هذا المجال بين دبلوماسيات ذات خبرة مثل الدبلوماسية الروسية والمصرية دوراً مهماً فى هذا المجال.. وربما يمكن أن تنشأ منظمة دولية جديدة من الدول على أساس البريكس ومنظمة شنجهاى للتعاون، ولكن هذا لا يزال بعيد المنال. فى هذه الأثناء، نجد أنفسنا فى وضع لا تزال فيه الهياكل السابقة للعلاقات الدولية غير فعالة، ولا تزال الهياكل الجديدة فى المرحلة الأولى من تشكيلها. لذلك، فإن الأزمات المذكورة أعلاه تتطور من تلقاء نفسها، دون التأثير التنظيمى لعناصر حفظ السلام العالمية. ولكن ما مدى فعالية النموذج متعدد الأقطاب؟ فى رأيى أن هذا النموذج ليس فعالاً جداً، على الرغم من أنه أفضل من عالم أحادى القطب. فالعالم متعدد الأقطاب يمكن أن يكون مفيداً فقط لفترة الخروج من النموذج الأحادى القطبية، الموالى للغرب وأمريكا للنظام العالمي. وما نقاط الضعف التى تراها فى نموذج العالم متعدد الأقطاب؟ أولاً، حقيقة أن كل «قطب من الأقطاب» سيقاتل من أجل مصالحه. وهذا يمكن أن يؤدى إلى الفوضى وتصعيد أكبر للصراعات.. ثانياً، من غير المُرجح أن تكون المناطق الكبيرة قادرة على تحديد من سيمثل مصالحها وكيف سيمثلها.. ثالثاً، يبدو أن الولاياتالمتحدة والغرب سيسعيان إلى تعزيز دور القطب الخاص والقطب القيادي. وهناك أسس لمثل هذا الطلب، هناك ما يقرب من 40 دولة من دول الغرب المتحد لديها العديد من الدلائل على وجود معسكر واحد، وجوهره هو الهيكل العسكرى لكتلة شمال الأطلسي.. ولذلك، يبدو لى أنه من الضرورى أن تشكل «مراكز القوى» الفردية اتحادات أوسع نطاقاً على أساس مبادئ مشتركة فى المستقبل. وفى هذا الصدد، أعتبر مجموعة البريكس أساساً ممكناً لإنشاء مثل هذا النموذج الأكثر استقراراً للنظام العالمي. أمريكا تعيش على أمجاد الانتصار فى الحرب العالمية وتنتهج حروب تكسير العظام من خلال إشغال روسيا فى أوكرانياوالصين فى تايوان من أجل بقائها مسيطرة على المقدرات العالمية.. هل تستوعب موسكووبكين هذا الأمر؟ إن الصين والاتحاد الروسى شريكان فى التنمية ويناقشان القضايا الإقليمية والدولية التى تهمهما. نحن لسنا حلفاء عسكريين وسياسيين ولم نخطط لاتباع مسار إنشاء تحالف عسكري. لكن التصرفات العدوانية للولايات المتحدة تجبرنا، بالإضافة إلى تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية، على التفكير أيضاً فى توسيع التعاون العسكرى التقنى والانتقال إلى تعاون واسع النطاق فى المجال العسكري. نحن نجرى بالفعل تدريبات عسكرية مشتركة. فى السابق، كانت هذه المناورات ذات طبيعة مكافحة الإرهاب، والآن، على ما يبدو، ستغطى أيضاً قضايا مواجهة التهديدات العسكرية من دول ثالثة. ما السيناريوهات الأمريكية للتعامل مع النظام العالمى الجديد وخريطته السياسية؟ يخطط الأمريكيون للعب دور رئيسى فى الأحداث العالمية وفى عالم متعدد الأقطاب. ويتوقعون أن يكون المركز «الغربي» فى العالم المتعدد الأقطاب أقوى من جميع المراكز الأخرى. فهو يضم حوالى 40 دولة، ودولاً قوية مثل: الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا. وفى أوروبا، يقومون بتعزيز حلف شمال الأطلسي، وفى آسيا يقومون ببناء نظام كتلة بمشاركة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، ويحاولون جذب الهند إليها.. وفى الوقت نفسه، تسعى الولاياتالمتحدة إلى منع توحيد مراكز القوى الأخرى فى صيغ مشتركة بمنطق «فرّق تسد!».. ولا يزال هذا المبدأ يعمل حتى اليوم. ولذلك، فإنهم يبذلون كل ما فى وسعهم لضمان عدم تمكن دول البريكس ومنظمة شنجهاى للتعاون وغيرها من المنظمات والتجمعات الأخرى لدول العالم من تحقيق تكامل أكبر والقدرة على مقاومة ضغوط الولاياتالمتحدة والدول الغربية. فى رأيك.. ومع انشغال روسيا فى الحرب والانقسام الذى يشهده الداخل الأمريكي.. هل تكون الصين هى المستفيد الأكبر فى النظام العالمى الجديد؟ إن الصين التى لديها الفرصة لتوريد بضائعها إلى جميع بلدان العالم، مهتمة بنظام دولى تُحترم فيه مبادئ عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، وتوفر فيه فرص إقامة علاقات اقتصادية حرة. وتتوافق هذه المصالح مع مصالح الاتحاد الروسي. ولذلك، فإننا نأمل فى أن يخدم النظام الدولى الجديد مصالح جميع الدول التى لا تسعى إلى الإملاء واتباع سياسات استعمارية جديدة.. وتعارض كل من الصينوروسيا ممارسات الولاياتالمتحدة والدول الغربية فى فرض العقوبات. ونحن نقف معاً من أجل رفع جميع القيود المفروضة على العقوبات التى تتجاوز الأممالمتحدة. هل نحن على أعتاب مواجهة نووية ستُفضى إلى حرب عالمية ثالثة؟ أم أن الحرب ستكون اقتصادية بامتياز؟ نحن ننطلق من حقيقة أنه بالنسبة للسياسة والاقتصاد والمال فى النظام الدولى الجديد يجب أن تكون هناك مبادئ بسيطة للغاية.. وهى احترام سيادة جميع الشعوب، ورفض سياسة الابتزاز والضغط الاقتصادى والعقوبات، ورفض سياسة الاضرار بمصالح وأمن الدول الأخرى. بالنسبة لدول مثل: مصر وروسيا، فإن الالتزام بهذه المبادئ ليس بالأمر الصعب.. وقد تنشأ صعوبات بالنسبة للدول التى ورثت فكر ونهج الحقبة الاستعمارية، عندما كانت الدول الغربية تعتبر نفسها «متحضرة» وجميع الشعوب الأخرى «همجية». ونحن نحاول اليوم أن نضمن أن يترك الغرب الجماعى مثل هذه المقاربات فى الماضى ويتعلم احترام الدول والشعوب الأخرى. فى حال قيام حرب عالمية ثالثة.. كيف سيكون ملامحها وكيف سيكون شكل العالم والنظام الدولى بعدها؟ وفقًا للعلماء، فإنه فى حال نشوب حرب نووية بين روسيا والدول الغربية بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإن العالم سيختفى من الوجود نتيجة كارثة بيئية. لذلك من المرجح أن يكون «النظام الجديد» صحراء بلا حياة مصابة بالإشعاع. تشهد منطقة الشرق الأوسط سباقاً متسارعاً نحو التسلح والعسكرة.. كيف تقرأ ذلك وما خطورته؟ إذا ما تم إنشاء نظام مستقر من العلاقات الإقليمية السلمية ذات المنفعة المتبادلة، يمكن للشرق الأوسط أن يصبح أحد محركات التنمية العالمية. فالبلدان المنتجة للنفط لديها إمكانات استثمارية هائلة، ويعيش فى المنطقة أناس مغامرون وموهوبون.. ومع ذلك، لا تزال النزاعات والحروب مستمرة فى المنطقة، والكثير منها مُستوحى من الخارج، من قبل دول لا ترغب فى ظهور منافسين أقوياء جدد فى الإنتاج والتجارة والتنمية. وقد طرح الاتحاد الروسى مراراً وتكراراً خططاً لإنشاء نظام أمنى إقليمى فى الشرق الأوسط، فى منطقة الخليج. ويمكن للمبادرات المشتركة لروسيا ومصر أن تلعب دوراً مهماً فى تنفيذ هذه الأفكار. كيف يمكن التعاطى مع عسكرة الشرق الأوسط وماذا عن فكرة إنشاء حلف عسكرى عربى أو ما يُسمى « ناتو عربى أو شرق أوسطي»؟ نحن ضد عسكرة أى منطقة، بما فى ذلك الشرق الأوسط. ونحن نرى مستقبل المنطقة ليس فى تنظيم أى تحالفات، بل فى إنشاء نظام موحد للضوابط ومنع نشوب الصراعات فى شكل نظام أمني.. ولكننا ننطلق من حقيقة أن دول المنطقة تدرك جيداً خطر تصاعد التوتر فى الشرق الأوسط، حيث توجد 25 دولة ذات إمكانات تنموية هائلة، من المهم تجاوز فترة الاضطرابات وبدء النضال من أجل أن تصبح المنطقة مركزاً جديداً للنشاط التجاري.. وتقع المنطقة على مفترق الطرق التجارية السريعة فى العالم. ويتم تنفيذ 80% من التجارة العالمية باستخدام الاتصالات البحرية. وبالتالي، فإن هذا العامل وحده يمكن أن يكون له تأثير كبير فى مجال الاقتصاد، وتحسين مستوى معيشة السكان. مصر بالتأكيد رمانة ميزان المنطقة.. كيف ترى الدور المصرى الداعى للاستقرار وتغليب لغة العقل لا لغة القوة والسلاح؟ لقد بادرت مصر بعملية السلام فى منطقة الشرق الأوسط وفعلت ما لم تستطع دول أخرى أن تفعله، فى الوقت الذى تدعو فيه إلى حل عادل للقضية الفلسطينية. ونعتقد أنه سيكون من الأسهل على مصر اليوم أكثر من غيرها أن تأخذ زمام المبادرة لاستعادة الزخم فى عملية السلام. ويمكننا أن نبدأ بمعالجة القضايا الإنسانية فى قطاع غزة. بعد ذلك، سيكون من الممكن الشروع فى عقد مؤتمر دولى حول تهدئة الوضع فى الشرق الأوسط بمشاركة روسياوالولاياتالمتحدة.. وأود أن أشير إلى أنه بصيغة الخبراء رفيعى المستوى، نواصل الاجتماع بشكل دورى مع زملائنا الأمريكيين فى إطار «المسار الثاني». وربما بهذه الصيغة يمكن فى البداية وضع مقترحاتٍ لاستعادة عملية التفاوض فى الشرق الأوسط.. وربما يمكن لمصر، بالتعاون مع روسيا أو غيرها من الدول، أن تبادر باقتراح لاستعادة أنشطة مجموعات العمل متعددة الأطراف بشأن القضايا الإقليمية الرئيسية - الأمن والتعاون الاقتصادى والبيئة والموارد المائية ومشكلة اللاجئين.