بدأت تظهر قبل فترة غير قصيرة دراسات تخص اتجاهات الرأى العام وتعكس رغبة أكيدة لدى مختلف شعوب العالم لإنهاء النزاع في أوكرانيا بأية طريقة، وتتفق نتائج تلك الدراسات مع التقديرات التى توحى بأن حكومات الكثير من الدول الغربية وخاصة المساندة لأوكرانيا قد أصبحت هى الأخرى ترغب بل وتسعى لإنهاء هذا النزاع الذى بات يهدد الكثير من الأنظمة والعروش الحاكمة بعد أن خلع عنها الأقنعة وأظهرها على حقيقتها. وكما أشرنا سابقا فإن النزاع فى أوكرانيا هو نزاع الحسابات الخاطئة من كافة الأطراف المتورطة فيه، فقبل كل شيء هذا النزاع لا يمكن بأى حال من الأحوال اعتباره نزاعا بين طرفين، بل هو نزاع بين عدة أطراف، وقد صدق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما ألمح فى بعض تصريحاته بأن روسيا تواجه ما يشبه الحرب العالمية، مشيرا إلى أن الغرب قد أصبح طرفا مباشرا فى هذا النزاع، وثانيا عندما ظنت روسيا أن أمد الحرب لن يستمر طويلا، وثالثا عندما لم تتمكن أوكرانيا من قراءة الواقع الملموس وتتجاوب مع محاولات التفاوض التى قامت بها روسيا فى بداية الحرب، وربما لو وافقت أوكرانيا وقتها على التفاوض الجاد لما تعرضت لهذا الكم من الخسائر الذى تكبدته خلال مراحل الحرب حتى الآن، وأصبح كيانها كدولة هو الآخر معرضا لخطر كبير. ◄ المؤتمر الوهمي كانت سويسرا قد استضافت فى الفترة من 15 إلى 16 من يونيو الماضى مؤتمرا حاولوا وصفه على أنه مؤتمر للسلام فى أوكرانيا، وهو وصف أعتقد أنه يتنافى نصا وموضوعا مع اسمه، حيث بات واضحا أنه مجرد مؤتمر لحشد التنديد بروسيا وضمان استمرار المساعدات المقدمة لأوكرانيا لمواصلة الحرب.. ومن أهم الملاحظات التى أستطيع رصدها على هذا المؤتمر هو أن روسيا لم تشارك فيه، رغم أنها طرف أصيل فى معادلة النزاع، وأنه لن تكون هناك أية تسوية بطبيعة الحال دون مشاركة هذا الطرف، ومع ذلك فالدول الغربية المتزعمة للمؤتمر لم تدعُ روسيا للمشاركة فيه من الأساس، وذلك عكس ما حاول الغرب الترويج له من تعنت روسيا ورفضها للتفاوض، بل الحقيقة هى أنهم لم يدعوا روسيا للتفاوض وهو الأمر الذى أفرغ المؤتمر من مضمونه قبل حتى الانعقاد، وربما أن هذا يعتبر من أهم الأسباب التى دفعت مصر على سبيل المثال للإحجام عن المشاركة فى هذا المؤتمر، حيث اعتبرت أن مؤتمرا للسلام دون مشاركة أحد الأطراف هو أمر عبثى لا جدوى منه. وكان من أهم نتائج المؤتمر المشار إليها هو حضور ممثلين عن نحو 93 دولة من دول العالم من أصل أكثر من 160 دولة تلقت الدعوات بينما لم يصدق على البيان الختامى للمؤتمر سوى 80 دولة فقط، ولكن فى تصورى أن أهم نتائجه هو ما تلمسه الرئيس الأوكرانى زيلينسكى من اتجاهات عامة فى العالم أجمع وعلى الأخص لدى الدول الأكثر مساندة لبلاده من أن «المساعدات لا يمكن أن تكون بلا نهاية»، وربما أنه أدرك ضرورة الاعتراف بحقيقة لا مفر منها وجميعنا نتابعها بالعين المجردة، وهى أن مواقف أبرز الدول المساندة له قد بدأت تتغير، وأن المستقبل القريب لن يكون مواتيا له فى ظل اقتراب موعد الانتخابات فى الكثير من هذه الدول وعلى رأسها الولاياتالمتحدة التى قد تعيد النظر بشكل جذرى فى موقفها من هذا النزاع فى ظل إدارة رئاسية مغايرة. لذلك كان من أول التصريحات التى أدلى بها زيلينسكى فى أعقاب المؤتمر المشار إليه هو أن هذا المؤتمر ليس سوى مؤتمر تمهيدى وأنه سوف يعقبه مؤتمر آخر وربما يكون فى الخريف القادم بعد ثلاثة لقاءات تمهيدية ترتبط به، وهى اللقاء فى قطر حول موضوعات الطاقة والثانى فى تركيا حول الممر البحرى والثالث فى كندا حول المساعدات الإنسانية. ◄ الجدية والمراوغة كان بليز مالى مراسل صحيفة «ريسبونسبل ستاتيكرافت - Responsible Statecraftالمستقلة فى معهد كوينسى الأمريكى من أوائل من تحدثوا بشكل جريء عن نتائج قمة سويسرا وتطور موقف زيلينسكى، حيث كتب يدعو للاعتراف بشكل واضح بفشل قمة سويسرا وأن الرئيس الأوكرانى يشعر اليوم أكثر من أى وقت مضى أن المساعدات الغربية لن تكون بلا نهاية ولن تساعد فى تحقيق النتيجة التى يرجوها الغرب وهى دحر روسيا. شخصيا أستطيع ان أتفق كلية مع هذا التقدير ولكن مع بعض التحفظات التى تخص حقيقة نوايا الرئيس الأوكرانى التى لن يعرفها سواه، وعلى الأخص بالنسبة للضغط على الغرب لتعظيم المساعدات وإمداد بلاده بالمزيد من الأسلحة وتطوير الأداء على الجبهة، مع العلم بأن ما تحصل وستحصل عليه أوكرانيا من أسلحة مقارنة بما تمتلكه روسيا من قدرات لن يحقق الهدف الذى تتوهمه أطراف النزاع فى الحرب من حيث هزيمة روسيا وإجبارها على الانسحاب، وهذه حقيقة يجب أن يعترف بها الجميع ويضعوها فى الاعتبار، خاصة أن هذا يعتبر من أهم أسس مطالب روسيا للتفاوض وهو الاعتراف بالواقع الملموس، ثانيا تطوير الأداء على حساب اللجوء لأساليب لا يقرها القانون والأعراف الدولية، على غرار العمليات الإرهابية - إن صحت الادعاءات الروسية بأن المخابرات الأوكرانية والغربية وراء العمليات الإرهابية الأخيرة فى روسيا - لن يؤدى إلا إلى المزيد من تعقيد النزاع وانصراف الدول المختلفة عن التعاطف مع أوكرانيا وربما المزيد من التعاطف مع روسيا والمزيد من اصطفاف الشعب الروسى حول قيادته. وبالتالى لوكان زيلينسكى بمبادرته الجديدة للسلام يرغب فى المراوغة، فعليه التخلى عن هذا الاتجاه والتمسك بالإشارات الإيجابية التى تمخضت عن هذه المراوغة وعلى رأسها استحسان الكثير من دول العالم للفكرة وقبل ذلك عدم الرفض القاطع من جانب روسيا لها وهو ما يتطلب وبشدة إظهار الرغبة الفعلية للتسوية السياسية. ◄ الداخل الأوكراني ولا ينبغى أن ننسى هنا أنه إذا كان الرأى العام فى الكثير من الدول الغربية يشعر بالإرهاق من الحرب ويرغب فى إنهاء النزاع ووضع نهاية للمساعدات التى تمثل عبئا كبيرا على ميزانياتها، فالأمر لا يختلف كثيرا فى الداخل الأوكرانى، حيث الناس لم تعد تتحمل معاناة وأعباء الحرب، بل إن عملية التجنيد الإجبارى واقتياد الشباب والرجال من الشوارع ووسائل المواصلات واقتحام المنازل قد بدأ يقلب الشعب على قياداته وربما يدفعهم إلى اتخاذ مواقف سلبية من الوطن ذاته، مع العلم بأن فترة رئاسة زيلينسكى قد انتهت قبل أشهر وهو ما قد يدفع بعض القوى للدعوة للتظاهر للمطالبة بتنظيم انتخابات رئاسية، الأمر الذى ينطوى على خطورة شديدة فى وقت الحرب. في البداية يجب الإشارة إلى أن روسيا من البداية لم ترفض مبدأ التفاوض، بل على العكس كان سقف التفاوض الذى تبديه أقل بكثير عنه فى الوقت الراهن، ففى بداية النزاع كان الحديث عن مجرد ضمانات أمن وإجراءات ثقة متبادلة، وغطرسة الغرب فى هذا المجال أدت إلى نشوب النزاع، وهو ما خلّف واقعا جديدا بانضمام أراضٍ جديدة للدولة الروسية وذلك بناء على رغبة حقيقية وحرة من جانب سكان هذه المناطق، وبالتالى تتحمل روسيا مسئولية أخلاقية تجاه حمايتهم إلى جانب ضرورة تحمل الطرف الثانى نصيبه من المسئولية إزاء هذا التطور. ثم فوجئنا فى خضم العمليات العسكرية الملتهبة وفشل الهجوم العكسى الأوكرانى وشعور الإرهاق لدى شعوب الكثير من الدول المساندة لأوكرانيا وتغيير القيادات الحاكمة_ بما يرتبط به من إمكانيات ملموسة فى مجال تعديل المواقف فوجئنا بالحديث عن مؤتمر سويسرا للسلام فى أوكرانيا الذى كما أشرنا شابه الكثير من السلبيات وعلى رأسها التعالى عن دعوة روسيا للمشاركة فيه، وكأن الغرب لديه العصى السحرية لإجبار روسيا على الامتثال للنتائج التى قد تتمخض عنه. روسيا لم ترفض المشاركة وكما أكد العديد من مسئوليها، بما فى ذلك وزير الخارجية الروسية ذاته سيرجى لافروف، أن روسيا لم تتلق الدعوة لكى حتى تعقب عليه، مشيرا إلى أن هذا المؤتمر بالنسبة لها «كأن شيئا لم يكن.» ◄ قواعد بوتين الشيء الآخر الذى ينبغى الانتباه له قبل الحديث عن أية مفاوضات أو جهود للتسوية هو الأسس التى سيجرى البناء عليها، وهذه الأسس قد حددها الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بشكل واضح ومباشر ولا يحمل أى احتمالية لسوء الفهم، وعلى رأسها بطبيعة الحالة استعداد وقابلية الطرف الآخر للتفاوض، بمعنى أن أوكرانيا ذاتها لديها قانون مصدق عليه فى البرلمان يحظر على أى مسئول فى الدولة بما فى ذلك رئيس الدولة الدخول فى أى نوع من المفاوضات مع روسيا، وهو ما يعنى بدوره أن أية مفاوضات سيجريها أى مسئول أوكرانى مع روسيا قبل إلغاء هذا القانون لا قيمة ولا سند قانونى لها بل تعتبر مخالفة وجريمة جنائية وفقا للقانون الأوكرانى. ثانيا أن روسيا وبصفتها الطرف المنتصر حتى الآن فى الحرب وبصفتها، شئنا أم أبينا، دولة عظمى لا يليق دعوتها للتفاوض بصيغة الإنذار النهائى، حيث أكدت القيادة الروسية أنه لا يمكن بأى حال من الأحوال قبول دعوة التفاوض التى يتحدث عنها زيلينسكى طالما تحمل صيغة الإنذار النهائى. ثالثا، وهو أمر بديهى يصعب الاختلاف معه، وهو أنه بينما يتحدث زيلينسكى عن مبادرته الجديدة للسلام يدعو الغرب فى نفس الوقت لرفع القيود عن استخدام الأسلحة الغربية داخل الأراضى الروسية، وروسيا تعتبر ذلك موقفا متناقضا مع الرغبة فى التسوية، وشخصيا لا أتفق مع هذا التقدير، فإذا كانت روسيا تتحدث عن إبداء النوايا الحسنة فأعتقد أنه من الممكن القيام بذلك من كلا الجانبين معا فى نفس الوقت، وذلك من خلال مثلا الإعلان عن هدنة مؤقتة لإعطاء المفاوضات فرصة أفضل، وهو أمر فعلته روسيا من قبل فى يوليو من عام 2022 بحجة إعطاء القوات برهة للاستراحة بعد العمليات الناجحة التى قامت بها، وكذلك عندما اضطرت القوات الروسية للانسحاب من الضفة الغربية لنهر دونيتسك بعد عمليات ناجحة للقوات الأوكرانية، حيث أعتقد إن هذا كان هو الوقت المناسب جدا للقيام بعملية تفاوض تنقذ ما يمكن إنقاذه لأوكرانيا وتحقق لروسيا فى نفس الوقت المكاسب التى كانت تسعى لها من البداية فى مجال الضمانات الأمنية. اليوم روسيا حققت نتائج عظيمة فى العمليات العسكرية، وضمت لها المزيد من الأراضى عن طريق التعبير عن الرغبة الشعبية، وهو ما سيجعل من الصعب اعتبارها أراضى محتلة، ناهيك عن إنشاء منطقة آمنة عازلة تجعلها تعلن اليوم إمكانية الحديث عن قرب انتهاء العمليات العسكرية ربما قبل نهاية العام الجارى. وربما أن وزير الخارجية الروسية سيرجى لافروف، وهو رجل يتمتع بخبرة وحكمة واسعة فى السياسة الخارجية لا يجاريه فيها أحد من أقرانه فى الوقت الراهن، ربما قد رسم روشتة إنهاء العلميات العسكرية خلال كلمته الأخيرة فى مجلس الأمن الدولى، وأقول هنا إنهاء العمليات العسكرية وليس النزاع، حيث أكد أن الحرب لا يمكن أن تستمر للأبد وأنه على الغرب أن يتوقف عن تكديس السلاح فى أوكرانيا، ووقتها فقط يمكن البدء فى الحديث عن التسوية. ◄ الضوء في نهاية النفق قد يعارضنى الكثيرون فى هذا التقدير، ولكن - وكما أشرت آنفا - كانت هناك عدة فرص للتسوية ووقتها كان سقف المطالب الروسية أقل بكثير عنه فى الوقت الراهن، وروسيا فى كل مرة كانت تنادى بالاعتراف بالواقع الجديد، وهذا الواقع عبّر عنه لافروف فى كل مرة ومناسبة، وهو أنه لا حديث عن الأراضى التى ضمتها روسيا نتيجة العلميات العسكرية، وهنا أتوقف كثيرا .. روسيا لا تحتاج للمزيد من الأراضى، وتمتلك أكبر احتياطيات من الثروات المعدنية والطبيعية فى العالم، والمسألة برمتها حددها لافروف بأنه على هذه الأراضى يعيش أناس وهؤلاء ينبغى حمايتهم وتوفير سبل الحياة السلمية الطبيعية لهم، وبالتالى وفى تصورى أن الطريق للسلام فى أوكرانيا يجب أن يمر من خلال عدة خطوات بما فى ذلك الامتناع عن العميات الإرهابية داخل الأراضى الروسية وعدم تأجيج المشاعر العدوانية لدى الجانبين والإعلان بشكل ما عن الاستعداد لوقف العلميات العسكرية لمصلحة التسوية ثم التفكير مليا ومليا ومليا فى عبارة «أنه يوجد على الأراضى حديثة الانضمام لروسيا أناس يحتاجون للعيش فى سلام وطمأنينة». وغالبا عندما يدور الحديث عن المفاوضات يرفع كل طرف سقف مطالبه إلى أعلى حد حتى يتمكن من خلال المفاوضات من تقديم تنازلات والحصول على أكبر قدر من المكاسب، والإنجازات العسكرية تعطى كل طرف ميزة فى الاحتفاظ بسقف مطالبه عاليا بينما الخسائر والهزائم تفقده هذا السقف وربما تجعله يقبل بأقل قدر يقدمه الطرف المنتصر. أما بالنسبة للمبادرة التى طرحها الرئيس الأوكرانى زيلينسكى لعقد قمة ثانية فى سويسرا فقد ردت عليها روسيا على لسان ميخائيل جالوزين نائب وزير الخارجية الروسية، الذى أكد أن الدعوات التى تعلن عنها أوكرانيا تحمل صيغة الإنذار النهائى، وروسيا لا تقبل مثل هذه اللهجة والصيغة.. بينما أوجز وزير الخارجية الروسية سيرجى لافروف موقف بلاده مؤكدا أن روسيا لم ترفض التفاوض بل تدعو إليه دائما وحتى الآن هى لم تسمع عن الدعوة الأخيرة لقمة جديدة فى سويسرا إلا من خلال وسائل الإعلام، وطالما أن روسيا لم تتلق الدعوة أو تتسلم أية مقترحات بشكل رسمى فلا يوجد ما يمكن التعقيب عليه .