المعركة اليوم فى إقليمنا لا تدور فقط بين أطراف متصارعة، يبحث كل منها عما يتصور أنه «مصالح»، بغض النظر عن تداعيات تلك المصالح وكلفتها الباهظة على مستقبل المنطقة، بل المعركة الأخطر -كما أراها- تكمن فى صراع أكثر عمقًا بين رؤية تعتمد على العقلانية السياسية والمنطق فى معالجة الأزمات، استنادًا إلى أسس قانونية راسخة ومبادئ يفترض أن يتحلى بها المجتمع الدولى ترسى أسس العدل وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، فضلًا عن تأكيد قيم الإنسانية فى التعاطى مع الصراعات، وبين رؤية تقف على النقيض، تستند إلى منطق القوة وفرض الأمر الواقع، واصطناع الفوضى فى محاولة لخلق حالة من الارتباك، بل وإحداث زلازل وبراكين تشعل المنطقة، وتؤدى إلى خلط الأوراق، ليستفيد من يملك أدوات القوة والتأثير الآنى من تلك الحالة الفوضوية، فى تحقيق ما يرى أنه مكاسب، لكنها على المدى البعيد تضع أساسًا لأزمات أكثر خطرًا فى المستقبل. يعيش إقليمنا منذ عشرة أشهر حالة من الجنون على وقع جريمة العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، لكن تلك الحالة لا يمكن أن تكون منبتة الصلة عما عاشه الإقليم على مدى أكثر من عشر سنوات، فالخيط الرابط بين الحالتين لا يزال موصولًا، وهو محاولات تفكيك المنطقة وإعادة هيكلتها على أسس تضمن ديمومة الصراعات، وإضعاف الدولة الوطنية، لصالح فواعل دون الدولة مثل الميليشيات المذهبية والأيديولوجية والجماعات المتطرفة من كل اتجاه. هذا التصور الذى تغذيه سياسات دولية منحازة، هو السبب الرئيسى اليوم فى كل ما نشهده من حرائق ممتدة على طول وعرض الخارطة العربية والشرق أوسطية، بما فيها إشعال صراع جائر فى غزة، أو حرب أهلية فى السودان، أو تمزيق لمؤسسات الدولة فى ليبيا، أو استهداف لسوريا، أو تفكيك لليمن، أو إشعال للعراق، أو تهديد لوحدة الصومال، أو تأزيم لحركة الملاحة فى البحر الأحمر. كل ما سبق ليس سوى تنويعات على لحن الخراب الذى تعزفه بعض القوى الإقليمية غير العربية والعديد من القوى الدولية بين أطلال حرائق الشرق الأوسط، ظنًا منها أن تلك الحالة تضمن إضعافًا متعمدًا للدول القادرة على التصدى لمخطط التفكيك، وخلقًا لحالة يمكن لأذرع ووكلاء تلك القوى التمدد من خلالها واختراق نسيج المنطقة. لذلك يبدو صوت العقل اليوم الذى تتبناه مصر وتدافع عنه، ضرورة قصوى وطوق نجاة لمنطقة تترنح سفينتها بين أنواء شتى، وتتصارع على قمرة قيادتها أيادٍ لا تستهدف سوى الإمساك بدفة القيادة دون أن يكون لديها ما يكفى من وضوح الرؤية لاتجاه الخروج من عين العاصفة. اليوم.. صوت مصر لا يجسد فقط تلك الدعوة لإعلاء قيم القانون وترسيخ الدولة الوطنية، ولا يعبر فقط عن تلك الرغبة الصادقة فى إطفاء حرائق المنطقة، والتحذير من نذر سيناريوهات الحرب الإقليمية الشاملة، بل هو ضمير المنطقة اليقظ، ونبض أهلها من المحيط إلى الخليج ممن أثكلتهم الصراعات وأدمت قلوبهم وأجسادهم ومقدراتهم معارك القتل المجانى، والارتهان لقوى خارجية. وعلى مدى الأيام الأخيرة كانت مصر وجهة للم شمل الأشقاء من السودان وليبيا، وقبلهما من فلسطين، فضلًا عن جهودها التى تغالب العقبات والعراقيل للتوصل إلى «تهدئة» فى غزة، دون أن «تهدأ» مساعيها لإغاثة الأشقاء المكلومين هناك بشتى السبل. كانت مصر - ولا تزال- الصوت الوحيد الذى لا يزال قابضًا على جمر التحذير من خطورة انفجار المنطقة، وقد تراكمت الشواهد على أن الأسوأ لم يأت بعد إذا ما استمر السكوت على «سيناريو العبث الإقليمى». الرؤية المصرية فرصة أخيرة لكل ذى عقل وضمير فى إقليم يقف على حافة منحدر زلق، كل خطوة فيه بالاتجاه الخاطئ تكلف الجميع سنوات من الصراع ومستنقعات من الدم والكراهية، ولا حل يقى الكل ويلات السيناريو الأسوأ سوى التصدى للتدخلات الخارجية، وتحجيم جنون دولة الاحتلال التى باتت كثور هائج وسط خزف الشرق الأوسط، فلا قرارات أممية تردعهم، ولا أحكام دولية تحرجهم، ولا جرائمهم ضد الإنسانية تُخجلهم، فالذئاب لا تعرف أبدًا أحاسيس الندم فى مواجهة ضحاياها. لا حل لمنطقتنا اليوم سوى الالتفاف حول صوت العقل والعدل.. لا حل سوى الاصطفاف مع الرؤية المصرية، ولنا فى التاريخ والواقع العبرة والعظة.