إن تردد قضية فلسطين على ألسنة الصغار أبناء السابعة وزملائهم فى المدارس والبيوت وهم يتابعون ويستشعرون ما يمر به أترابهم هناك لهو بذرة وعى قومى قريب بين هؤلاء الناشئين. للمناديل القماش حكايات وحكايات فى الموروث الشعبى القريب تكاد تندثر مع سيطرة المنديل الورق، وأشهرها منديل أم كلثوم الذى لازمها طوال نصف قرن على المسرح يلزم يسراها ويرتفع مع الآهات ويستقر مع المعانى الهادئة للأغنية.. ويستقر بعد وفاتها لقاء خمسة ملايين دولار لدى رجل الأعمال السعودى حمزة باشراحيل دفعها ثمنا له فى مزاد خيرى لصالح فقراء العالم نظمته «الفاو» بالقاهرة عام 1990! السبت: الحل بسيط! فجأة هاجمت الشاشات فى نهايات السبعينيات هوجة إعلانات استهلاكية مع سيطرة المنتجات التافهة وقتها سريعة الانتشار مضمونة المكسب، كان من أشهرها إعلان تقول كلماته: بابا عمال يعطس.. وأنا باضحك لما أفطس.. على ماما الجميلة .. والحل جميل عندى..هو مناديل هاندى.. هكذا كانت كلمات الإعلان عن مناديل الورق التى غرقت بها الأسواق لتقضى على سطوة المناديل القماش التى كانت مستخدمة فى كثير من الاستخدامات وليس فقط لزوم الجيب،حتى أنها بوجهها الرقيق كانت مادة للأعمال الفنية فظهر مثلا فيلم وأغنية لكارم محمود يحملان اسم»دستة مناديل»،وفيلم اسمه» مناديل الحبايب» وأغنية شهيرة هى «منديل الحلو» لعبد العزيز محمود، وأخرى وطنية فى وقت المد القومى الناصرى اسمها «افرش منديلك» لماهر العطار. كان المنديل رمزا غراميا شهيرا تسح عليه عيون المحبين دموع اللوعة ،ويمسح به المحبون آلام العواطف،ويستبعدون أن يكون المنديل هدية بينهم،ففى ذلك نذير شؤم بالفراق..زمن كان لمشاعر «بسيطة» يراها الناس اليوم أحاسيس «عبيطة» ،وبتعبير بعض الشباب أفكار»شليلة!». ووجه ثان للمناديل رمز الرقة كان ماتتزين به حواء البسيطة فى الريف والمدن بعيدا عن الارستقراطية مكشوفة الشعر وغيره من مناطق الجسم؛ المناديل أم «أوية» وأم «ترتر» وذات الخرز ،تتزين بها الفتاة أو المرأة تبعا لمرحلتها السنية فتتزين الرزينة الهادئة بذات الخرز قليل اللمعة هادئ النبرة،وتتزين الفتاة والسيدة اللى شايفة نفسها بالترتر والأوية بعقدتها عند منتصف الرأس أو على أحد الجنبين،يتمايل مع تمايلها ودلعها..وكان الموسكى والغورية بالقاهرة سوقين رائجتين لتلك المناديل. وللهدايا كان المنديل رمزا للفرحة ورد الجميل من العروس الشعبية والريفية لمن يقومون بزيارتها صباحية زفافها،فكانوا ينقطونها بالنقود وترد بمنديل رجالى أو حريمى اشترت منه عدة دست مفردها دستة وتعنى اثنى عشر قبل الزفاف لرد نقوط زائريها فى عش الزوجية. وللأناقة الرجالى أيضا كانت المناديل القماش توضع فى جيب الجاكت الصغير العلوى وتفنن الرجال فى وضعها بهيئة هرم صغير تارة أو مثلث تارة ثانية أو بطرفه فقط تارة ثالثة،وكان مع الكرافتة والقميص يمثل ثلاثتها انسجاما لونيا مع البدلة والحذاء والحزام فى الوسط وقت كان هناك للأناقة مفاهيم متجانسة بعيدا عن بوهيمية الأذواق التى نعيشها. ونفس المناديل بوجهها الجاد الآخر كانت ملازمة للجادين فكانت أشهر شهود عقد القران بيد المأذون يغطى يد العريس ووكيل العروس بمنديل أبيض تيمنا بأن تكون زيجة بيضاء سعيدة،حتى إذا مافرغ المأذون من مهمته تسارعت يدا العريس ويدا وكيل العروس أو مساعد المأذون لخطف المنديل الذى يقطع الخطوة الأهم نحو إتمام عقدة النكاح! وكما كان له شرف عقد القران فقد كان خير وسيلة لمسح عرق المجدين المكافحين؛ذلك هو المنديل المحلاوى نسبة للمحلة الكبرى وقت كانت قلعة للنسيج قبل أن يغتالوا القطن المصرى فى سنوات سوداء للزراعة المصرية ،وكلنا يتذكر المنديل الكاروهات كبير الحجم شهير الشكل يغطى رأس الفلاح محمد أبو سويلم الشهير بالفنان محمود المليجى رحمه الله رمزا للفلاح المصرى فى فيلم»الأرض»معقودا من الأمام فوق الجبهة وفوقه الطاقية الصوف ليقى به رقبته من أشعة الشمس الحارقة وتمتص عرقه بقطنها المصرى الأصيل،قبل أن تسيطر الألياف الصناعية على تلك الصناعة وصناعة الملابس الداخلية ويملأ الأجساد بالأمراض الجلدية المتعددة،ويصبح الحصول على ملابس قطنية ضربا من الصعوبة للبسطاء.. ونفس المنديل المحلاوى كان يحمل للفلاح فى حقله غداءه وعشاءه البسيط من العيش البتاو أو الفلاحى بكل صوره وقطعة من الجبن القريش أو القديمة، وتحكم الزوجة ربطه حول الأكل وتحمله فوق رأسها أو يحمله صغيرها للذهاب إلى الحقل يتغديان معا أو يضع صاحبنا لقيماته وغموسه مع لقيمات جيرانه ويصنعون معا «غديوة» بسيطة لذيذة هنية تكفى مية! وفى غمرة ماراح من موروثاتنا الشعبية راح المنديل القماش ضحية لهجمة شرسة من المناديل الورقية التى تملأ الشوارع والأرصفة وإشارات المرور للبيع والتسول ومسح العرق بمادة مصنعة من مخلفات يتم تدويرها لايدرى أحدنا أمانها من ضررها، ولأنه ليس بالإمكان التخلى كلية عن العصر ففى جيبى الجانبى مجموعة مناديل ورق ،لكن مازال المنديل القماش أيضا فى جيبى الآخر!. الأحد: مفتاح العودة إن كل مايحاوله المحتل من تزييف التاريخ ومحاولة ترويض الجغرافيا لصالح أوهامه هو من باب خبث الحديد الذى تصهره أفران الحقيقة فلا يبقى من المعدن إلا أنفسه وأثمنه،وذلك هو مايثبته الأبطال الصامدون هناك فوق أرضهم لا يتحركون منها قيد أنملة تجاه مايدفعهم إليه موت يطاردهم من نيران وصواريخ ودبابات وطائرات قتلة الأطفال والنساء،ومايزالون يعلنون بدمائهم ما يخذلهم عنه صوتهم دون أزيز الطائرات وصراخ القنابل ،مايزالون يسطرون ملحمة للصمود تكمل مابذله الآباء والأجداد حتى منهم من طوردوا وتركوا الديار عنوة لم يتخلوا عن حلم العودة يرفعون أصواتهم ليل نهار،ويقولون للغاشمين إن أرضهم السليبة ستظل ملكا لهم بحكم التاريخ ،وأن بيوتهم التى أخرجوا منها مازالوا يحملون مفاتيحها رمزا للإصرار على العودة إلى أراضيهم المحتلة منذ عام 1948، حيث يحمل كل فلسطينى نسخة من مفتاح بيته، والذى يورثه لأولاده وأحفاده . الاثنين: طوفان الوعى أدهشتنى الحفيدة سلمى وهى تشير إلى علم بيد طفل بالشارع وتهتف علم فلسطين ياجدو وأدهشنى الصغير مازن أصغر أبناء إخوتى وهو يرسم عدة رسومات لأعلام الدول العربية ويخيرنى بينها ثم يقول لى أنا باحب علم فلسطين ياعمو. وأدهشنى الحفيد عبدالرحمن وهو يرفض شراء شىء مما هو مطلوب مقاطعته من منتجات كانوا يشترونها وأكملت الحفيدة يارا وهى تلعن الصهاينة والأمريكان الذين يقتلون أهلنا فى فلسطين وبينهم الصغار فى مثل أعمارهم.. وقلت فى داخلى لو لم يفعل طوفان الأقصى غير هذا البعث لقضية فلسطين فى الصدور لكفاه، والأهم أنه أجبر الجميع على الالتفات لقضية شعب تنزوى وهو يموت شيئا فشيئا..إن تردد قضية فلسطين على ألسنة الصغار أبناء السابعة وزملائهم فى المدارس والبيوت وهم يتابعون ويستشعرون ما يمر به أترابهم هناك لهو بذرة وعى قومى قريب بين هؤلاء الناشئين. ووجدتنى فى داخلى أستعيد أبياتا لأمير الشعراء أحمد شوقى رحمه الله تجسد مافعله طوفان الأقصى وأنتج هذا الوعى المبكر لدى الصغار: بلاد ماتت فتيتها لتحيا وزالوا دون قومهم ليبقوا! وللأوطان فى دم كل حر يد سلفت ودَيْن مستحق وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق!