« كانت سيارتنا تسير بالكاد على حافة الطريق الوعر.. فانتفض قلبى خوفاً وذعراً مما قد ينتظرنا!» الأربعاء: الزمان: السابعة صباحا المكان : مدينة «ريزيه» الواقعة فى أقصى شمال غرب تركيا على حدود چورچيا .. انطلقت بنا السيارة فى الصباح الباكر مع نسمات برودة ورذاذ أمطار تداعب نفسها استعداداً للهطول .. على الطريق الطويل الممتد .. على مدى الشوف عيناك لا ترى إلا اللون الأخضر بكل درجاته الغامق والفاتح والفستقى ثم المائل إلى القليل من الألوان الأحمر والأصفر والبنى جميعها تكسو الهضاب والجبال على اليسار بينما تسير بمحاذاة البحر الأسود بلونه الأزرق الداكن على اليمين .. هذا البحر الذى تطل عليه ست دول هى: چورچيا وروسيا وأوكرانيا ورومانيا وبلغاريا بالإضافة لتركيا .. بينما تقتصر الكائنات الحية به على عمق مائة متر فقط !.. وبعدها تمتلئ مياهه بالغازات السامة!.. والمفارقة هنا أنه يشتهر بأغلى أنواع الأسماك وهى: سمكة «الهامسى» التى تنتج أغلى أنواع الكاڤيار الأسود الشهير باهظ الثمن .. إذن نحن نسير فى لوحة من الطبيعة الخلابة الفريدة النادرة النقية الندية والتى تجد نفسك فجأة جزءاً منها !.. يا الله على هذا المنظر الرائع !.. بدأت عجلات سيارتنا فى الصعود تدريجياً لنترك البحر إلى طريق نصف معبد أو بمعنى أدق مسار متعرج ينحنى أحياناً ثم يلتوى وبعدها يستقيم أحياناً أخرى .. كانت وجهتنا إلى مرتفعات جبال « بادارا « مروراً بسلاسل جبال كاتشكار التى ترتفع نحو ألفى متر فوق سطح الأرض.. وذلك كما أخبرنا مرشدنا السياحى التركى «ماچيت بغداى» الذى يتحدث العربية بطلاقة وقد درسها فى سوريا حيث كان يعبر إليها يومياً لقربها من مدينته الأم أنطاكيا «فقط تسعة عشر كيلومتراً تفصل بينهما».. لذا كانت لكنته شامية مخلطة بالعربية الفصحى كما أن ملامحه أيضاً قد تبدو للوهلة الأولى عربية شامية. بدأت أشعر بدوار بسيط .. مع صعودنا التدريجى.. بينما كنت أجلس بجوار النافذة لأجد سيارتنا تسير بالكاد على حافة الهاوية وعلى وشك أن تنزلق عجلاتها !.. فانتفض قلبى خوفاً وذعراً مما قد ينتظرنا لا قدر الله !. أما مرشدنا ماچيت فقد ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة محاولاً طمأنتى قائلاً: إن سائقنا محترف ويعرف الطريق عن ظهر قلب فقد ارتاده آلاف المرات صعودا وهبوطا فلا داعى للخوف أو القلق .. طوال المسار الذى يمثل جزءاً من طريق الحرير الممتد من الصين شرقاً إلى تركيا بالوسط وحتى إيران لا تنتهى الشلالات الصغيرة وأيضاً الضخمة التى تندفع منها ينابيع المياه الطبيعية وقد حفرت لنفسها مجارى مائية فى الهضاب وسلاسل الجبال الشاهقة إلى أن تنتهى إلى وديان ضحلة وعميقة .. كما أنه لا نهاية للخضرة الممتدة والمعين الذى لا ينضب !. قلعة الجرس مرت ساعة كاملة لم نشعر بالملل ولو للحظة واحدة .. وكيف يكون ذلك بينما نسير على هذا الطريق المثير الغريب فى وعورته وخطورته وروعته.. المكسو بغابات أشجار البندق والكستناء الشاهقة والتى تشكل لوحة عبقرية من صنع الله .. لوحة ربانية لم تعبث بها يد البشر فى منطقة حباها الله بهذا الجمال !.. أخبرنا مرشدنا أننا سنتوقف لزيارة «زيل قالى» أو قلعة الجرس وقد أطُلق عليها هذا الاسم لكونها كانت بمثابة استراحة يلجأ إليها المارة من التجار الذين كانوا يحملون البضائع على ظهر البغال قادمين من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.. فكانت مثل: «سفر خانه» أو «كاراڤان سراى».. والقلعة التى أصبحت اليوم متحفاً ومزاراً سياحياً يستقبل الآلاف من الزوار تقع على ارتفاع ألف وأربعمائة وخمسين متراً فوق سطح البحر وتتألف من ثلاثة أدوار مشيدة بالحجارة الصخرية الخاصة التى تعد معجزة فى حد ذاتها بينما تحيطها الأسوار والبوابات الحديدية التى كانت تؤمن المارة من التجار آن ذاك. مشينا سيراً على الأقدام عدة أمتار نستكشف الطريق حول القلعة بيضاء اللون المتآكلة بعض الشيء بسبب عوامل التعرية الزمنية .. فبدا طريق البغال عن بعد يضيق ويتعرج ويلتوى أكثر .. وقد أطُلق عليه هذا الاسم لأن السكان كانوا يتركون « البغال « هى التى تسير فى المقدمة لترشدهم وتقودهم إلى أقصر الطرق وأسهلها صعوداً إلى قمة الجبل حيث هذه القرية الصغيرة مقصدنا الأساسى. مكان أبلة فاطمة قطعنا المسافة فى ساعتين ونصف الساعة حتى بلغنا قمة الجبال .. وقد لامسنا السحاب الكثيف .. وانخفضت درجة الحرارة إلى 15 درجة مئوية- أقل تسع درجات عن الوادي-بالرغم من أننا فى نهاية شهر يونيو .. وعندما لمحنا السهم على الطريق يؤشر إلى يافطة مكتوب عليها بالحروف اللاتينية «فاطمة أبلانين يريى» وهو ما يعنى بالعربية «مكان أبلة فاطمة» وهو اسم المطعم الذى من المقرر- وفق جدولنا المُعد بعناية من وزارة السياحة التركية-أن نتناول به وجبة الغداء. تُرى من هى فاطمة ؟.. رأيتها تقف خلف وابور الغاز تتصبب عرقاً بينما كان مظهرها متواضعاً للغاية ترتدى «جلباب فلاحى» وتعصب رأسها بمنديل يشبه تماما «المنديل بؤية» المصرى القح .. بملامحها البيضاء ووجهها المستدير وحمرة وجنتيها استدعت فى ذاكرتى صورة جدتى رحمها الله .. أما المطعم فهو بدائى جداً وبسيط .. يطل على حافة الجبل ومشيد بخليط من الأسمنت والخشب معا .. وسط المراعى الطبيعية للأبقار ومزارع الفراولة وعسل النحل النقى العذرى.. ابتسمت لنا فاطمة مرحبة وهى تحيينا برأسها.. تنقصنا اللغة المشتركة.. فهى لاتتحدث بطبيعة الحال إلا التركية وبلهجة مختلفة عن أهل الحضر فى المدينة .. فنحن هنا فى قرية صغيرة بدائية جداً تبدو منفصلة عن العالم !.. لا موبايل ولا إنترنت ولا تليفزيون .. ولا أى شيء سوى الأشجار المثمرة والأبقار التى تعيش وتتغذى على الأعشاب فى الغيطان والمراعى الطبيعية منطلقة بكل حرية .. أما مياه الشرب فتأتى من الآبار بعد فلترتها .. هنا يعيش فقط مائة وعشرون شخصاً هم كل سكان هذه المنطقة الثرية بطبيعتها التى هجرها معظم سكانها بحثاً عن الدراسة والتعليم والتكنولوجيا والحداثة للأسف!.. بينما تحرص السلطات التركية على رعايتهم من أجل الحفاظ على هذه العادات والتقاليد الأصيلة والمعرضة للاختفاء بسبب صخب الحياة الحديثة وضماناً لمساهمتها فى القطاع السياحى على المدى الطويل!. وفاطمة هى التى تطبخ بنفسها فى مطعمها المتواضع جداً مجرد طاولات خشبية ممتدة بينما يساعدها زوجها ذو الملامح الحادة بعينين سوداويين.. وحاجبين كثيفى الشعر.. وكرش ممدد يتدلى منه سروال أسود آخذا إلى الرمادى .. بينما أمها التى حفرت بعض خطوط الزمن طرقاً فى وجهها الصبوح تجلس هناك فى ركن هادئ ترصد عن بعد بعينين ضيقتين ضيوفها !. الخميس: تحركنا زملائى وأنا من مدينة طرابزون إلى أهم مقصد سياحى فى المنطقة وهى بحيرة «أوزون جول» أى البحيرة الطويلة وتقع على بعد مائة كيلو متر جنوب شرقى المدينة وعلى مقربة من منطقة «تشيكارا» .. ولها حكاية أخرى نتابعها فى اليوميات القادمة