اختتم موسم أصيلة الثقافى الدولى، فى المملكة المغربية الشقيقة، فعاليات دورته الخريفية التى تحمل رقم 44 فى عمر هذا المنتدى الذى أسسه، ولازال يرعاه ويخصص له جُل وقته واهتماماته، المفكر المغربى الكبير محمد بن عيسى وزير الخارجية والثقافة السابق. هذا المنتدى أصبح أحد أقدم وأهم المنتديات الثقافية والفكرية العربية فى العقود الأربعة الأخيرة، ولا يكاد يوجد رمز ثقافى أو فكرى فى العقود الأربعة الأخيرة إلا ومر على «أصيلة» امتدت الدورة الخريفية (هناك دورة أخرى صيفية) من الجمعة الموافق السادس من أكتوبر حتى 26 من الشهر نفسه، وشهدت «أخبار الأدب» أحد أهم محاور المنتدى، وأكثرها ثراءً وهو ملتقى الرواية العربية الذى خُصص هذا العام لمناقشة محور «الرواية العربية والخطاب البصرى» بمشاركة رموز من كبار النقاد والروائيين والأكاديميين الذين سلطوا الضوء على علاقة الرواية العربية مع الخطاب البصرى. وتُوج البرنامج على مدار جلسات يومين بتوزيع جائزة محمد بن زفزاف للرواية العربية. فى افتتاحية الموسم الثقافى الخريفى أكد محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، شكره وامتنانه للدعم الملكى المتواصل لموسم أصيلة الثقافى منذ بدايته سنة 1978، وقال إنه فى أعقاب زلزال الأطلس الكبير والذى خلف الآلاف من الضحايا والخراب، قررنا إلغاء كل العروض الموسيقية هذه السنة. وقال بن عيسى أن الموسم الثقافى «يعد تكريسا للعمل الثقافى الحر الذى يتيح للمشاركين من مختلف الأقطار فرصة التلاقى، والحوار، وتبادل الخبرات والتجارب بين مختلف المقامات السياسية والثقافية والإبداعية، التى يستضيفها عاما بعد عام منذ أكثر من أربعة عقود». ولكى ندرك اهمية ودور المنتدى يكفى أن نعرف أن دورته لهذا العام كانت بمشاركة 300 شخصية ومتحدث. علاقة الأدب والسينما ندوة «الرواية العربية والخطاب البصرى» أعد لها وأدارها بحنكة واحترافية الباحث والناقد المغربى شرف الدين ماجدولين، الذى قال فى كلمته الافتتاحية لأنشطة الملتقى «إن الرواية هى فن الوعى البصرى الذى من المفترض أن نتساءل عن أبعاده المتعددة، حيث لا يكاد يوجد نص روائى إلا وكان مشغولاً بتفصيل بصرى، بل ويطمح إلى أن يكون له إمتداد فى فيلم أو فى مسلسل، أو حتى فى عمل مسرحى» السؤال إذا مشروع ويتبقى أن نؤصله ونقننه كنقاد وكباحثين. فى البداية أكد محمد بن عيسى أمين عام «أصيلة» أن الملتقى يهتم بالرواية لكونها تختزل الجزء الكبير من الابداع الإنسانى الذى يشد إليه الأنظار ويثير الاهتمام الكبير به من طرف الجميع، مضيفا أن الكثير من الروائيين اهتموا بما يعرف ب»الكتابة الوصفية» فى السنين الأخيرة على مستوى المغرب والعالم العربى، التى تركز على العين والملاحظة والتشخيص والوصف، ما يجعل الرواية لصيقة بالكثير من الأشكال التعبيرية الفنية. وكانت مداخلة الشاعر والروائى المغربى محمد الأشعرى، بعنوان «الرواية والأثر»، وتحدث فيها عن العلاقات بين الكتابة بصفة عامة، والرواية على وجه الخصوص، وبين تجربة الفنون التشكيلية فى المغرب، مؤكدًا أنها حديثة جداً و«مخلخِلة» وتساءل الأشعرى عن الكيفية التى كان الشعراء والروائيون والقصاصون يكتبون بها نصوصهم قبل ما يمكن أن نسميه بانفجار التجربة التشكيلية فى الحقل الثقافى. وقال «أن هذا النظام البصرى كان موجوداً بطرق وأشكال مختلفة، كما كان حاضراً فى المدن والقرى عبر المعمار والزخرف والنسيج وحتى الطرز والحلى بل والوشم، وكانت له علاقات قوية مع اللغة، من الناحية الشكلية ومن الناحية الروحية أيضاً». وقال الأشعرى إن الأثر البصرى فى الرواية لا يمكن أن نقيسه بحضور العوالم التشكيلية عبر شخصيات الرواية أو محكياتها، إلا بعلاقة التفاعل المباشر بين النصوص والتجارب، بين الرواية والأعمال الفنية، بشكل يقود إلى الحديث عن كيمياء التلاقح بين الأثر البصرى وبين الكتابة الأدبية. وقال إن ما يهمه فى الأثر التشكيلى والرواية ليس المحكيات والشخصيات، بل كيف حصل الأثر التحديثى للنصوص الأدبية بواسطة التشكيل. وتساءل الروائى اللبنانى رشيد الضعيف فى بداية مداخلته: كيف نحول سيناريو إلى رواية؟ ورد على تساؤله باستعراض تجربته مع السينمائيين الذين كانوا يلحون عليه فى كتابة السيناريو، لأنهم رأوا فيما يكتب أشياء يمكن تحويلها وتصويرها وإخراجها سينمائياً. وقال إنه حين عُرض عليه كتابة سيناريو لروايته «فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم» تساءل: ما هذا وكيف؟! ثم تحدث الضعيف عن تجربة ثانية مع روايتة «المستبد» قبل أن يتحدث عن تجربة أخرى مختلفة، جمعته بالمخرجة اللبنانية الراحلة رندة الشهال، التى شرعت فى كتابة سيناريو حول الحياة اليومية فى بيروت ولكنها كانت تجربة، كما قال، لم تكتمل، ليقرر تحويل أفكاره وملاحظاته إلى رواية، خرجت الى النور تحت عنوان «تقنيات البؤس»، مشيراً إلى تجربة أخرى، تتعلق بكتابته سيناريو أرَخ فيه لانفجار مرفأ بيروت. وقال إن هذا السيناريو نزل كأنه وحي. وتناولت الروائية مى التلمسانى أستاذة الدراسات السينمائية بجامعة أوتاوا العلاقة بين الأدب والفنون البصرية والسينمائية وقالت إنها يمكن أن ترتكز على ثلاثة ملامح رئيسية أولها أن العلاقة بين الأدب والفنون ليست ثنائية الأطراف، بل شبكة من الخطوط ترتبط بين عناصر متعددة تتجاوز النصوص ذاتها، وتنفتح على خطابات الجمال وماهية الإبداع ووظائفه. وثانيها، أن العلاقة بين الأدب والفنون هى عملية تركيب وحضور دائم وتحاور بين نصوص متجاورة سابقة وتالية على عملية التناص. وثالثها، أن العلاقة بين الأدب والفنون هى علاقة تعدد تحيل لضرورة التفكير فى تاريخ النظر، لا تنفصل فيه الكتابة عن الفنون ونطل منه على العالم فتتسع رقعته إلى ما لا نهاية. وذكرت التلمسانى أن الأمر يتعلق بعلاقة «تلاقح» وحركة طوال الوقت، تقوم على التوافق والتحوير والتأويل والتناص، بما يتجاوز النقل المباشر أو التجربة أو بناء شخصيات أدبية عبر وسيط بصري؛ أى سعى إلى فهم عمليات التناص والتلاقح بين الأدب وبين الفنون من خلال الأدوات التى يستخدمها كل وسيط باعتبارها عمليات وصل وفصل فى آن واحد تتقاطع فيها النصوص ضمن شبكة معقدة من الاحتمالات اللانهائية. وقدم الروائى اليمنى حبيب عبد الرب سرورى، الأستاذ بجامعة روان الفرنسية، رؤيته التى ركز فيها على ما أسماه بالمشهد البصرى الميتافيزيقى فى الرواية، انطلاقاً من عبارة للكاتب الفرنسى مارسيل بروست، قال فيها إن «الفن هو الحياة الحقيقية». وقال أن المشهد البصرى بالتأكيد مهم فى الرواية، حينما يرتبط البصر بالبصيرة. قراءات روائية تضمن برنامج الندوة فى جلستها الثانية تقديم رموز روائية لقراءات صوتية من أعمالهم الروائية وبالذات ما يتوافق منها مع عنوان الندوة، الروائى التونسى شكرى المبخوت قرأ مقطعا من روايته «السيد العميد فى قلعته»، وقرأت الروائية الفلسطينية ليانة بدر فصلًا من روايتها «بوصلة من أجل عباد الشمس»، أما الروائى المغربى محمد الهرادى، فقرأ جزءًا من روايته «معزوفة الأرانب» وقرأ الروائى الدكتور إيمان يحيى جزءًا من روايته «الزوجة المكسيكية» وكانت مشاركة الروائية العراقية إنعام كجه جى مختلفة بعض الشىء حيث قدمت ورقة تناولت فيها رسالة زوجات الفنانين العرب الأجنبيات على الفن التشكيلى العربى، من خلال الحديث عن السيرة الروائية للرسامة البريطانية لورنا زوجة جواد سليم، صاحب «نصب الحرية» الذى يعد أحد كبار النحاتين والرسامين العراقيين. كما نظم المنتدى حفلا تأبينيا للكاتب والروائى السعودى الراحل هانى نقشبندى، والذى كانت تربطه علاقة وطيدة بأصيلة وبمواسمها الثقافية، وكان من المفترض أن يشارك فى هذه الدورة ولكن الموت غيبه فى 24 سبتمبر الماضى وجاء هذا الحفل للتعبير عن وفاء أصدقاء الفقيد لروحه، وإحياء ذكراه، وإنصافاً للرجل الذى شارك فى تنظيم دورات عديدة منها مشغل الكتابة، وزرع فى قلوب الأطفال حميمية خاصة وحبا خالصا له وللادب والفكر والثقافة. فوز الضعيف وكانت ذروة ملتقى الرواية اعلان لجنة التحكيم فوز الروائى اللبنانى رشيد الضعيف بجائزة محمد بن زفزاف للرواية العربية فى دورتها الثامنة هذا العام، وهى جائزة تسمتد قيمتها من أسماء لجنة التحكيم الرفيعة التى تنتقى وتدقق فى الأسماء التى تمنحها الجائزة، حيث فاز بجائزتها الأولى الطيب الصالح، وآخر من فاز بها هو أحمد المدنى، وجاء فى أسباب فوز الضعيف أنه انشغل بصدق وحذق ومثابرة على امتداد أزيد من أربعة عقود ببناء مسار روائى خاص، أثمر نصوصًا لها صنعتها الأصلية وعوالمها التخييلية الأخاذة. وقام محمد بن عيسى بتسليم الضعيف الجائزة وشهادة التكريم. تكريم بن سعيد وشهدت فعاليات الدورة ال 44 من موسم أصيلة الاحتفاء بمنجز المفكر المغربى محمد بنسعيد العلوى الذى يعد أحد أهم أعلام المشهد الثقافى المغربى والعربى على حد سواء، وقدم المفكّر المغربى عبد السلام بنعبد العالى قراءة تحليليّة لكتاب بنسعيد «أوروبا فى مرآة الرحلة، صورة الآخر فى الرحلة المغربية المعاصرة»