أسر أوائل الخريجين بالكليات العسكرية: التحاق أبناءنا بالمؤسسة "شرف كبير"    رئيس «الإنجيلية» ومحافظ الغربية يشهدان احتفال المستشفى الأمريكي بمرور 125عامًا على تأسيسه    وزير السياحة والآثار يلتقي أعضاء مجلس الأعمال السعودي المصري خلال زيارة للمملكة    البنتاجون: مستمرون في الحديث مع إسرائيل بشأن الرد على إيران وكيفية حدوثه    رئيس وزراء العراق: التصعيد في لبنان وغزة يهدد بانزلاق المنطقة في حرب شاملة    أشعل المباراة في 19 دقيقة.. مرموش يفتتح أهدافه بالدوري الأوروبي    توتنهام يواصل عروضه القوية ويهزم فرينكفاروزي المجري    6 مصابين بينهم طفلان في حادث سيارة أعلى "أسيوط الغربي"    الأرصاد: طقس الغد حار نهارا ومعتدل ليلا.. والعظمى بالقاهرة 30 درجة    مهرجان الإسكندرية يحتفل بتخرج الدفعة الثانية من معهد السينما بالإسكندرية    6 أعمال ينتظرها طه دسوقي الفترة القادمة    ريادة في تطوير العقارات.. هايد بارك تحقق نمو استثنائي في المبيعات لعام 2024    أسرتي تحت القصف.. 20 صورة ترصد أفضل لحظات وسام أبوعلي مع عائلته والأهلي    اجتماع موسع لقيادات مديرية الصحة في الإسكندرية    ضبط 17 مخبزا مخالفا في حملة على المخابز في كفر الدوار    المؤتمر: مبادرات الدولة المصرية بملف الإسكان تستهدف تحقيق رؤية مصر 2030    ممدوح عباس يهاجم مجلس إدارة الزمالك    مدير كلية الدفاع الجوي: خريج الكلية قادر على التعامل مع أحدث الصواريخ والردارات الموجودة في مصر    إيمان العاصي تكشف عن مفاجأة في الحلقات القادمة من مسلسل برغم القانون    أمين الفتوى: الاعتداء على حريات الآخرين ومجاوزة الحدود من المحرمات    دينا الرفاعي وجهاز الفراعنة تحت 20 عاما يحضرون مباراة وادي دجلة والطيران (صور)    قافلة طبية لأهالي «القايات» في المنيا.. والكشف على 520 مواطنًا    تكريم أوائل الطلاب بالشهادات الأزهرية ومعاهد القراءات بأسوان    3 وزراء يفتتحون مركزًا لاستقبال الأطفال بمقر "العدل"    أمين عام الناتو يزور أوكرانيا ويقول إنها أصبحت أقرب لعضوية الحلف    لهذا السبب.. منى جبر تتصدر تريند "جوجل"    «الثقافة» تناقش توظيف فنون الحركة في فرق الرقص الشعبي بمهرجان الإسماعيلية    "القاهرة الإخبارية": الحكومة البريطانية تطالب رعاياها بالخروج الفورى من لبنان    عضو المجلس العسكري الأسبق: مصر لديها فرسان استعادوا سيناء في الميدان والمحاكم - (حوار)    صندوق النقد الدولي يؤكد إجراء المراجعة الرابعة للاقتصاد المصري خلال الأشهر المقبلة    افتتاح المؤتمر الدولي السابع والعشرون لأمراض النساء والتوليد بجامعة عين شمس    شيخ الأزهر يستقبل سفير سلطنة عمان بالمشيخة    حكم صلة الرحم إذا كانت أخلاقهم سيئة.. «الإفتاء» توضح    أضف إلى معلوماتك الدينية| فضل صلاة الضحى    إصابة شاب بسبب خلافات الجيرة بسوهاج    سفير السويد: نسعى لإقامة شراكات دائمة وموسعة مع مصر في مجال الرعاية الصحية    لطفي لبيب عن نصر أكتوبر: بعد عودتي من الحرب والدتي صغرت 50 سنة    تأهل علي فرج وهانيا الحمامي لنصف نهائي بطولة قطر للإسكواش    تعديلات قطارات السكك الحديدية 2024.. على خطوط الوجه البحرى    العرض العالمي الأول لفيلم المخرجة أماني جعفر "تهليلة" بمهرجان أميتي الدولي للأفلام القصيرة    باحث: الدولة تريد تحقيق التوزان الاجتماعي بتطبيق الدعم النقدي    الرئيس السيسي يستقبل رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بمطار القاهرة    تعدد الزوجات حرام في هذه الحالة .. داعية يفجر مفاجأة    محافظ الغربية يبحث سبل التعاون للاستفادة من الأصول المملوكة للرى    رئيس الوزراء ورئيس ولاية بافاريا الألمانية يترأسان جلسة مباحثات مُوسّعة لبحث التعاون المشترك    منها «الصبر».. 3 صفات تكشف طبيعة شخصية برج الثور    اتفاق بين منتخب فرنسا والريال يُبعد مبابي عن معسكر الديوك في أكتوبر    رئيس هيئة الرعاية الصحية يبحث تعزيز سبل التعاون مع الوكالة الفرنسية للدعم الفنى    "الشيوخ": حسام الخولي ممثل الهيئة البرلمانية لحزب مستقبل وطن    ضبط 17 مليون جنيه حصيلة قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    الأمن يكشف لغز العثور على جثة حارس ورشة إصلاح سيارات مكبل في البحيرة    وزير الخارجية السعودي: لا علاقات مع إسرائيل قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة    الصحة: تطعيم الأطفال إجباريا ضد 10 أمراض وجميع التطعيمات آمنة    مركز الأزهر للفتوى يوضح أنواع صدقة التطوع    «القاهرة الإخبارية»: استمرار القصف الإسرائيلي ومحاولات التسلل داخل لبنان    4 أزمات تهدد استقرار الإسماعيلي قبل بداية الموسم    الحالة المرورية اليوم الخميس.. سيولة في صلاح سالم    أستون فيلا يعطل ماكينة ميونخ.. بايرن يتذوق الهزيمة الأولى في دوري الأبطال بعد 147 يومًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر التونسى عبد الوهاب الملوح.. فى حضرة سيوران
الشعر وانحراف الفلسفة
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 08 - 02 - 2021

يحضر ‬الشعر ‬كلما ‬حضر ‬سيوران، ‬ويتجلى ‬هذا ‬الحضور ‬عبر ‬وجوه ‬مختلفة، ‬تبدأ ‬من ‬سيرته، ‬هو ‬الذى ‬تخلى ‬طوعا ‬عن ‬مواصلة ‬دراسته ‬العليا ‬فى ‬مبحث ‬الدكتوراه، ‬ولم ‬يكن ‬يجد ‬فى ‬نفسه ‬فيلسوفا ‬مؤهلا ‬لتقديم ‬نظرية ‬فكرية ‬متكاملة ‬العناصر ‬حول ‬الكون ‬أو ‬الوجود؛ ‬وعاش ‬مثل ‬متشرد ‬ينظر ‬إلى ‬الحياة ‬بوصفها ‬مجرد ‬عبور ‬مؤقت، ‬ويجب ‬التعامل ‬معها ‬بمنطق ‬الأسئلة ‬الكونية.‬
‬كان ‬سيوران ‬على ‬قناعة ‬تامة ‬بأن ‬دوستويفسكى ‬أكثر ‬أهمية ‬من ‬أعظم ‬فيلسوف، ‬وكانت ‬علاقته ‬بالشعر ‬عميقة، ‬وحظى ‬باهتمام ‬عدد ‬من ‬الشعراء ‬العرب، ‬فقاموا ‬بترجمة ‬كتاباته، ‬مثل ‬آدم ‬فتحى ‬الذى ‬ترجم ‬له، ‬ثلاثة ‬كتب، ‬ومحمد ‬على ‬اليوسفى ‬الذى ‬ترجم ‬له ‬مختارات ‬جُمعت ‬فى ‬كتاب ‬بعنوان ‬الو ‬كان ‬آدم ‬سعيداب، ‬و ‬الشاعر ‬التونسى ‬عبد ‬الوهاب ‬الملوح ‬الذى ‬ترجم ‬له ‬ثلاثة ‬كتب ‬هى ‬اعلى ‬مرتفعات ‬اليأسب، ‬ادموع ‬وقديسونب ‬واغسق ‬الأفكارب.‬
أربعة ‬أسباب ‬لاهتمام ‬الشاعر ‬بالفيلسوف
عبد ‬الوهاب ‬الملوح ‬شاعر ‬ومترجم ‬روائى ‬أصدر ‬فى ‬الشعر: ‬ارقاع ‬العزلة ‬الاخيرةب، ‬االواقف ‬وحدهب، ‬اسعادة ‬مشبوهةب، ‬اأنا ‬هكذا ‬دائماب، ‬االغائبب، ‬االليل ‬دائما ‬وحدهب، ‬اراقص ‬الباليه ‬ب، ‬ا ‬كتاب ‬العصيانب، ‬اكتدبير ‬احتياطيب. ‬
لم ‬تقتصر ‬تجربة ‬الملوح ‬على ‬الشعر ‬وحده، ‬بل ‬امتدت ‬كتاباته ‬لتشمل ‬الرواية، ‬والمسرحية، ‬والدراسات، ‬وهذا ‬يشير ‬بوضوح ‬إلى ‬تصالح ‬شاعرنا ‬مع ‬الأجناس ‬الأدبية ‬المختلفة، ‬وانفتاحه ‬عليها، ‬و ‬إيمانه ‬بوجود ‬طاقة ‬إبداعية ‬واحدة ‬تسرى ‬فيما ‬اعتبرناه ‬أجناسا ‬مستقلة، ‬وذهبنا ‬نرفع ‬الجدران ‬الشاهقة ‬لتفصل ‬بين ‬كل ‬جنس ‬وآخر ‬لتصبح ‬حدودا ‬صارمة. ‬
ترى ‬ما ‬الذى ‬دفع ‬الشاعر ‬إلى ‬ترجمة ‬سيوران، ‬هل ‬هى ‬دوافع ‬شخصية، ‬أم ‬ثقافية ‬عامة؟ ‬هل ‬هو ‬التفاعل ‬بدافع ‬البحث ‬عن ‬الإضافة ‬وتعميق ‬سؤال ‬الوجود؟ ‬
يوجز ‬عبد ‬الوهاب ‬الملوح ‬سر ‬اهتمامه ‬بسيوران ‬فى ‬أربعة ‬نقاط ‬هى :‬
(‬1) ‬يربط ‬سيوران ‬بين ‬حركتين ‬فى ‬الثقافة؛ ‬حركة ‬القرن ‬التاسع ‬عشر ‬وحركة ‬القرن ‬العشرين، ‬ويمثل ‬محطة ‬مهمة ‬لفهم ‬هذا ‬التحول ‬فى ‬التفكير ‬الذى ‬ينسف ‬كل ‬بناء ‬كلاسيكى ‬يعتمد ‬على ‬النسبية، ‬بل ‬ويحرر ‬الكتابة ‬من ‬الأجناسية، ‬وهو ‬ما ‬جعله ‬يكتب ‬الفلسفة ‬بالشعر، ‬ويكتب ‬الشعر ‬فلسفيا، ‬ومن ‬هنا ‬تأتى ‬النقطة ‬الثانية. ‬
(‬2) ‬كان ‬سيوران ‬محطة ‬لا ‬بد ‬منها ‬لفهم ‬تحولات ‬الشعرية ‬وأساليب ‬الكتابة ‬الإبداعية ‬لأنه ‬جاء ‬فى ‬مهب ‬العديد ‬من ‬المدارس ‬الأدبية ‬و ‬الفنية ‬عموما، ‬خاصة ‬وأنه ‬اطلع ‬جيدا ‬على ‬المد ‬الشعرى ‬الحداثى ‬الأول ‬الذى ‬تمثل ‬فى ‬بودلير ‬ورمبو ‬وفرلين ‬وقبلهم ‬هولدرين ‬وكيتس، ‬ثم ‬عاصر ‬شعراء ‬المد ‬الشعرى ‬الحداثى ‬الثانى ‬ابولينار ‬وماكس ‬جاكوب ‬وغيليفيك ‬وأندريه ‬بروتون ‬و ‬دافيد ‬هيوز، ‬هذا ‬المد ‬الشعرى ‬الذى ‬انتفض ‬بدوره ‬على ‬نظرية ‬الأجناس ‬الأدبية ‬وانطلق ‬فى ‬كتابة ‬متحررة ‬من ‬اية ‬قيود ‬شكلية، ‬وولد ‬جيلا ‬مختلفا ‬من ‬أمثال ‬جورج ‬باطاى ‬وانتونين ‬ارتو ‬وموريس ‬بلانشو ‬وجماعة ‬مجلة ‬تال ‬كال ‬ومؤسسى ‬الرواية ‬المضادة. ‬فى ‬هذا ‬المناخ ‬المتميز ‬بتمرده ‬انطلق ‬سيوران ‬فى ‬تشكيل ‬مشروعه ‬الثقافى ‬الذى ‬تميز ‬على ‬مستوى ‬المضمون ‬بالتمرد ‬أيضا ‬على ‬الفكر ‬الدينى ‬فى ‬تشريعاته ‬الوضعية ‬و ‬وبالتمرد ‬على ‬أسلوب ‬الكتابة ‬من ‬هنا ‬تأتى ‬النقطة ‬الثالثة. ‬
(‬3) ‬تميز ‬سيوران ‬بالأساس ‬بكتابة ‬الشذرات، ‬تلك ‬الومضات ‬الخاطفة ‬التى ‬قد ‬لا ‬تتعدى ‬ثلاثة ‬أسطر ‬مكثفة ‬ومشحونة ‬مختزلة. ‬وقد ‬ظل ‬يتدرب ‬على ‬هذا ‬الأسلوب ‬لسنوات ‬طويلة، ‬بعد ‬أن ‬أصدر ‬كتبه ‬الأولى ‬التى ‬اتصفت ‬جملها ‬بشيء ‬من ‬الطول ‬والاستطراد، ‬غير ‬أنها ‬جاءت ‬فى ‬إيهاب ‬لغوى ‬رفيع، ‬بما ‬جعلها ‬تبلغ ‬ذرى ‬شعرية ‬عالية، ‬حتى ‬أن ‬أغلب ‬مقاطعه ‬يمكن ‬اعتبارها ‬قصائد، ‬رغم ‬أن ‬أغلب ‬مواضيعها ‬كانت ‬ذات ‬بعد ‬انطولوجى ‬غيبى ‬، ‬وهنا ‬تأتى ‬النقطة ‬الرابعة. ‬
(‬4) ‬يعمق ‬سيوران ‬السؤال ‬حول ‬الاديان ‬من ‬الداخل ‬ويذهب ‬عميقا ‬فى ‬نقد ‬المسيحية ‬فى ‬مختلف ‬تطوراتها ‬بدءا ‬من ‬المسيح ‬بل ‬انه ‬انتقد ‬سلوك ‬المسيح ‬واتجه ‬نحو ‬تحليل ‬فكرة ‬الإيمان ‬بمعزل ‬عن ‬الاديان، ‬وهو ‬ما ‬جعله ‬يكون ‬متصوفا ‬ملحدا ‬أو ‬ملحدا ‬متصوفا.‬
الصوفى ‬الملحد
كيف ‬يكون ‬المتصوف ‬ملحدا، ‬والملحد ‬متصوفا؟ ‬ما ‬الفرق ‬بين ‬الملحد ‬والكافر، ‬وكيف ‬يرتبط ‬التصوف ‬بالإلحاد ‬عند ‬سيوران؟ ‬يقول ‬عبد ‬الوهاب ‬الملوح: ‬
الإلحاد ‬هو ‬الميل ‬عن ‬المقصود، ‬أما ‬الكفر ‬فهو ‬إنكار ‬الله، ‬هذا ‬ما ‬يذهب ‬اليه ‬اللغويون ‬فى ‬تعريف ‬هاتين ‬العبارتين، ‬وهى ‬تعريفات ‬لغوية، ‬أما ‬على ‬مستوى ‬التطبيق ‬الفعلى، ‬فالإلحاد ‬فكرة ‬عن ‬الكون ‬ونشأته ‬أعمق ‬من ‬الكفر ‬الذى ‬قد ‬يكون ‬كفرا ‬بآلهة ‬وإيمانا ‬بآلهة ‬أخرى، ‬وهو ‬ما ‬يترتب ‬عليه ‬أن ‬الملحد ‬لا ‬ينكر ‬الله ‬كجوهر ‬لهذا ‬الوجود، ‬ويبنى ‬أفكاره ‬وفق ‬هذا ‬الإيمان، ‬أما ‬الكفر ‬فهو ‬نوع ‬من ‬السلوك. ‬وعلى ‬ضوء ‬هذه ‬المقاربة ‬المختزلة، ‬أعتقد ‬ان ‬إميل ‬سيوران ‬ملحد ‬وليس ‬كافرا، ‬لأنه ‬فى ‬كل ‬إنتاجاته ‬الفكرية ‬يحاور ‬وجود ‬الله ‬ونشأته ‬وينتقد ‬الأديان ‬بمختلف ‬أنواعها ‬السماوية ‬والأرضية، ‬ويرى ‬أن ‬كل ‬الأديان ‬هى ‬فى ‬وجه ‬ما ‬تطور ‬للفكر ‬الأسطورى، ‬ولذلك ‬يعمل ‬على ‬تحليل ‬فكرة ‬نشأة ‬الكون ‬والجوهر ‬انطلاقا ‬من ‬ثنائية ‬الوجود ‬والعدم )‬نفس ‬مدخل ‬سارتر( ‬حتى ‬من ‬خلال ‬تبنى ‬الفلسفة ‬الرواقية، ‬لكن ‬سيوران ‬يدمج ‬فى ‬ذلك ‬فلسفة ‬الشكوكيين، ‬وهو ‬ما ‬انتهى ‬به ‬إلى ‬أن ‬تحول ‬إلى ‬شكل ‬من ‬التفلسف ‬الصوفى ‬الذى ‬يبحث ‬فى ‬روح ‬الله، ‬بل ‬ويرى ‬أن ‬الله ‬روح ‬كامنة ‬فى ‬الإنسان، ‬وهو ‬على ‬النقيض ‬تماما ‬من ‬غابريال ‬مارسيل ‬أب ‬الوجودية ‬المؤمنة ‬وأحد ‬أهم ‬متصوفة ‬المسيحية، ‬فسيوران ‬لا ‬يأخذ ‬بالمسلمات، ‬ولا ‬يؤمن ‬باليقينيات، ‬وتفكيره ‬قائم ‬على ‬تحريف ‬القناعات ‬المألوفة، ‬ويتجه ‬نحو ‬دحض ‬الأشكال ‬المعرفية ‬السائدة، ‬من ‬أجل ‬بناء ‬أسئلة ‬أشد ‬تعقيدا ‬حول ‬الوجود ‬ونشأة ‬الكون، ‬وفى ‬هذا ‬هو ‬يتميز ‬عن ‬الكافر ‬وعن ‬المؤمن ‬بالتسليم ‬، ‬لذلك ‬هو ‬كما ‬قال ‬عنه ‬فتحى ‬المسكينى ‬النبى ‬الملحد ‬المتصوف. ‬
الدراجة ‬وانحراف ‬الفلسفة
ذهب ‬سيوران ‬إلى ‬فرنسا ‬بمنحة ‬لتقديم ‬أطروحة ‬فى ‬الفلسفة، ‬من ‬عام ‬1937 ‬إلى ‬عام ‬1940. ‬لكنه ‬لم ‬يذهب ‬إلى ‬السوربون ‬قط. ‬كان ‬يقضى ‬الشهور ‬فوق ‬دراجته ‬التى ‬كان ‬يعتبرها ‬نوعا ‬من ‬الرفق ‬الإلهى. ‬
لقد ‬عرف ‬سيوران ‬نوعا ‬من ‬الأرق ‬العظيم، ‬ولم ‬تنقذه ‬الأدوية ‬من ‬العذاب ‬اليومى، ‬لقد ‬سممت ‬الحبوب ‬بدنه، ‬لكن ‬الدراجة ‬أنقذته ‬من ‬ضراوة ‬الأرق. ‬
كان ‬قد ‬مضى ‬على ‬وجوده ‬فى ‬باريس ‬بضعة ‬أشهر، ‬وفى ‬أحد ‬الأيام، ‬عرض ‬عليه ‬شخصٌ ‬دراجة ‬سباق، ‬ولم ‬تكن ‬غالية ‬فاشتراها، ‬وصار ‬يطوف ‬فرنسا ‬بتلك ‬الدراجة. ‬كان ‬يقطع ‬مائة ‬كيلومترا ‬فى ‬اليوم. ‬الأمر ‬الذى ‬أتاح ‬له ‬النوم ‬بسبب ‬الإرهاق ‬الجسدى. ‬وكان ‬يذهب ‬إلى ‬أية ‬قرية، ‬يتناول ‬ما ‬يشتهى، ‬وينام ‬فى ‬الحقول.‬
هل ‬لعبت ‬تلك ‬التجربة ‬دورا ‬فى ‬تحريره ‬من ‬هيئة ‬الفيلسوف ‬البيروقراطي؟ ‬
يقول ‬سيوران ‬فى ‬غسق ‬الأفكار ‬اأحب ‬الفلاسفة ‬القدامى ‬لأنهم ‬كانوا ‬يتفلسفون ‬وهم ‬يمشون ‬فى ‬الحدائق ‬والشوارع، ‬وأنفر ‬من ‬فلاسفة ‬العصور ‬الحديثة ‬لأنهم ‬يكتبون ‬فلسفاتهم ‬وهم ‬فى ‬مكاتبهم ‬محاطون ‬بالجدرانب ‬
يذهب ‬سيوران ‬كما ‬يقول ‬الملوح ‬إلى ‬أن ‬الفلسفة ‬انحرفت ‬عن ‬دورها ‬الأساسى ‬الا ‬وهو ‬التفكير، ‬والتأمل ‬فى ‬الوجود، ‬ونشأة ‬الكون، ‬وطرح ‬المزيد ‬من ‬الأسئلة ‬التى ‬تخلص ‬الإنسان ‬من ‬كسله ‬الوجودى، ‬وتحرر ‬عقله ‬من ‬اليقينيات، ‬والبديهيات. ‬فالفلسفة ‬اليوم ‬إما ‬ايديولوجية ‬تصنع ‬ايديولوجيا، ‬وتصير ‬مجرد ‬مكتب ‬ضبط ‬فى ‬هذه ‬الايديولوجيا، ‬أو ‬هى ‬موظف ‬قار ‬فى ‬سلطة ‬أحد ‬الأنظمة ‬السياسية ‬يخطط ‬لاستراتيجيات ‬عملها، ‬أو ‬أنها ‬مكتبة ‬فى ‬الجامعات ‬يعود ‬إليها ‬الطلبة ‬للحصول ‬على ‬شهادة ‬بلا ‬أى ‬فائدة، ‬ودور ‬الفلسفة ‬الذى ‬هو ‬حب ‬الحكمة ‬تزحزح ‬مع ‬مرور ‬الزمن ‬وتواتر ‬العصور ‬الفلسفية، ‬وفقدت ‬الفلسفة ‬دورها ‬فى ‬تربية ‬العقل ‬على ‬التحرر ‬من ‬خلال ‬تعويده ‬على ‬تحليل ‬المعطيات ‬الفكرية ‬بغية ‬إنتاج ‬معنى، ‬لأن ‬هذا ‬الدور ‬لا ‬يمكن ‬أن ‬يتحقق ‬إلا ‬بالالتزام ‬بالواقع، ‬والعيش ‬فيه، ‬والانطلاق ‬منه ‬للعودة ‬اليه، ‬وهذا ‬لن ‬يتحقق ‬إلا ‬فى ‬الشوارع، ‬والمقاهى، ‬والمحطات، ‬والترحال ‬بين ‬المدن ‬كما ‬فعل ‬سيوران ‬على ‬دراجته ‬الهوائية. ‬
الفيلسوف ‬وسر ‬الصور ‬الشعرية ‬
لم ‬يكتب ‬سيوران ‬شعرا، ‬ولم ‬يعتبر ‬نفسه ‬شاعرا، ‬وحاول ‬أن ‬يترجم ‬شعرا ‬فرنسيا ‬إلى ‬الرومانية، ‬لكنه ‬توقف ‬عن ‬المحاولة ‬لاعتقاده ‬بصعوبة ‬ذلك ‬على ‬فيلسوف ‬لا ‬يكتب ‬شعرا، ‬ومع ‬ذلك ‬يتملكنا ‬الإحساس ‬القوى ‬بشاعريته ‬كلما ‬قرأنا ‬شذراته ‬على ‬وجه ‬الخصوص، ‬وفى ‬محاولة ‬لكشف ‬سر ‬ذلك ‬الإحساس ‬يقول ‬الملوح: ‬
يرى ‬سيوران ‬الشعر ‬فى ‬كل ‬ما ‬هو ‬جماد، ‬وكل ‬ما ‬هو ‬مثير ‬للتأمل، ‬فهو ‬فى ‬البحر ‬وأمواجه، ‬فى ‬الأزرق ‬السماوى، ‬فى ‬المساء ‬الخريفى ‬الهادئ، ‬فى ‬الحقول ‬الريفية، ‬فى ‬ابتسامة ‬خاطفة ‬من ‬امرأة ‬تعبر ‬الشارع ‬بشكل ‬مباغت، ‬وهنا ‬يكمن ‬إيمان ‬المرء ‬بذاته ‬وبكينونته ‬ووجوده ‬يقول ‬فى ‬كتابه ‬ادموع ‬وقديسونب ‬
احين ‬ننصت ‬لصمت ‬الأشياء ‬من ‬حولنا ‬نشرع ‬وقتها ‬فى ‬إدراك ‬معنى ‬العزلة. ‬نفهم ‬السر ‬المكتوم ‬داخل ‬الحجارة، ‬واليقظ ‬داخل ‬النبتة، ‬الإيقاع ‬المخفى ‬أو ‬المرئى ‬للطبيعة ‬كلها. ‬لغزُ ‬العزلة ‬متفرع ‬من ‬حقيقة ‬أنه ‬لا ‬وجود ‬لكائنات ‬فاقدة ‬للحياة. ‬فلكل ‬شيء ‬لغته ‬التى ‬نفك ‬رموزها ‬بواسطة ‬حالات ‬صمت ‬لا ‬مثيل ‬لها.‬ب ‬انه ‬الانصات ‬للأصوات ‬الخفية ‬فى ‬الأشياء ‬من ‬حولنا ‬والتماهى ‬فيها ‬لدرجة ‬الانصهار، ‬ولذلك ‬يتخير ‬سيوران ‬عبارته، ‬ويتوقف ‬كثيرا ‬فى ‬تركيب ‬جملته، ‬ليجيء ‬أسلوبه ‬مختلفا ‬عن ‬أسلوب ‬الكتابات ‬الفكرية ‬المألوفة، ‬وهو ‬بهذا ‬الأسلوب ‬يلتحق ‬بشعراء ‬قصيدة ‬النثر، ‬وقد ‬احتوت ‬شذراته ‬صور ‬شعرية ‬فائقة ‬الجمال. ‬يكتب ‬سيوران ‬كمن ‬يتشمم ‬عطر ‬زهرة ‬مضمومة، ‬كمن ‬يتسلق ‬قطرة ‬ندى ‬ليسكن ‬فيها، ‬كمن ‬يتهجى ‬أبجدية ‬الحصى. ‬لا ‬يحلل ‬فكرته ‬بمنهجيات ‬الفلاسفة ‬الصارمة، ‬ولا ‬يؤسس ‬بناء ‬فكرته ‬على ‬الحجة ‬والحجة ‬المضادة ‬واستعمال ‬المصطلحات ‬الفلسفية ‬فى ‬ذلك، ‬بل ‬كمن ‬يجلس ‬فى ‬مقهى ‬ويتحدث ‬مع ‬الطاولات، ‬كمن ‬يمشى ‬فى ‬الشارع ‬وبترك ‬العنان ‬لأفكاره ‬كى ‬تتداعى ‬بصوت ‬عال، ‬وهو ‬هنا ‬يحقق ‬شعرية ‬عالية ‬غابت ‬عن ‬الكثير ‬من ‬شعراء ‬زمنه. ‬
المغامرة ‬وتعميق ‬السؤال ‬الجمالى ‬
عندما ‬يتفاعل ‬شاعر ‬مع ‬فيلسوف ‬من ‬نوعية ‬سيوران، ‬ذلك ‬التفاعل ‬الذى ‬لا ‬يقوم ‬فقط ‬على ‬مجرد ‬القراءة ‬الجادة، ‬بل ‬يتعمق ‬إلى ‬درجة ‬كبيرة ‬من ‬خلال ‬ترجمة ‬أعماله، ‬لا ‬يمكن ‬أن ‬يذهب ‬دون ‬أثر، ‬وعن ‬هذا ‬الأثر، ‬وسر ‬ذلك ‬التعلق ‬الكبير، ‬وطبيعة ‬العلاقة ‬بين ‬الشاعر ‬والمترجم، ‬يقول ‬عبد ‬الوهاب ‬الملوح: ‬
بدأتُ ‬قراءة ‬سيوران ‬منذ ‬زمن ‬طويل، ‬ثم ‬أقبلت ‬على ‬ترجمة ‬أعماله، ‬ولعل ‬أهم ‬ما ‬أضافته ‬لى ‬هذه ‬التجربة ‬هو ‬تعميق ‬السؤال ‬الجمالى ‬أسلوبا ‬ومضمونا، ‬ناهيك ‬عن ‬أنه ‬لفت ‬انتباهى ‬إلى ‬أن ‬الفنون ‬كلها ‬تتكامل، ‬النحت ‬والمسرح، ‬والفن ‬التشكيلى، ‬والموسيقى، ‬وخاصة ‬هذه ‬الأخيرة ‬يعتبرها ‬روح ‬الوجود ‬وهى ‬عبارة ‬نيتشة. ‬إضافة ‬إلى ‬أن ‬سيوران ‬دربنى ‬على ‬المغامرة ‬بالأسلوب، ‬إذ ‬أن ‬الكتابة ‬الإبداعية، ‬وأقصد ‬هنا ‬الشعر، ‬لا ‬تخضع ‬لضوابط ‬شكلية ‬كالوزن ‬والتقفية ‬والايقاع ‬الجرسى ‬بقدر ‬ما ‬هى ‬مداهمة ‬للفراغ ‬لتشكيله، ‬واللهو ‬بالتخيلات ‬فى ‬محاولة ‬لبدء ‬إنتاج ‬معنى ‬ثم ‬تسفه ‬بالسؤال، ‬أهم ‬ما ‬تعلمته ‬منه ‬هو ‬السؤال ‬وكيفية ‬اغتياله ‬بالجواب. ‬
طبعا ‬هناك ‬انسجام ‬تام ‬بين ‬الشاعر ‬والمترجم ‬داخلى، ‬وهو ‬يؤدى ‬إلى ‬شيء ‬من ‬التكامل ‬الذى ‬يبحث ‬عن ‬المزيد، ‬وأعتقد ‬أن ‬الشاعر ‬يظل ‬فى ‬حاجة ‬إلى ‬موتيفات ‬ومعينات ‬ومؤثرات ‬داخلية ‬وخارجية ‬للارتقاء ‬بتجربته ‬وتنقيتها ‬وإعادة ‬تشكيلها ‬فى ‬كل ‬مرة، ‬ولعل ‬المثاقفة ‬من ‬خلال ‬الترجمة ‬هى ‬أفضل ‬سبيل ‬لذلك ‬لما ‬تفتحه ‬من ‬آفاق ‬اطلاع ‬على ‬تجارب ‬وثقافات ‬وعادات ‬الشعوب ‬الأخرى. ‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.