عبدالله البقالى التصنيفات والتقارير التى تمطرنا بها المنظمات الدولية فى مختلف مناحى الحياة والتنمية تكشف عن مظاهر الاختلالات ومراكز القوة بالنسبة للدول، ذلك أن تكرار وجود دول معينة فى المراتب الأولى فى هذه التقارير يبرره ويفسره تمكنها من أسباب النهوض بقطاعات التعليم والبحث العلمى والصحة والخدمات الاجتماعية، وتفوقها فى مجال البنية التحتية التى تمثل الأساس فى تسريع وتيرة التنمية، وفى الهيمنة على عوالم المال والاقتصاد. لذلك ليس من قبيل الصدفة أن يلاحظ المراقبون والمتتبعون لسيل التقارير التى تصدر بوتيرة سريعة احتلال نفس الدول للمراتب المتقدمة فى جميع المجالات والقطاعات التى تؤكد التفوق الاقتصادى والعلمي، بينما توجد دول أخرى فى مؤخرة هذه التصنيفات والتقارير، لأنها، ببساطة كبيرة أهملت فى سياساتها العمومية الاهتمام بالأسباب التى تمكن الدول من الريادة فى التقدم والازدهار. آخر مثال عما نتحدث عنه تمثل فى تقرير مؤشر الابتكار العالمى لسنة 2019 فى نسخته الثانية، الذى صدر قبل أيام قليلة ماضية وشارك فى إعداده كل من جامعة كورنيل والمعهد الأوروبى لإدارة الأعمال (الإنسياد) والمنظمة العالمية للملكية الفكرية، وهى إحدى وكالات الأممالمتحدة المتخصصة، إضافة إلى ما سماهم التقرير ب (شركاء المعرفة)، ويتعلق الأمر باتحاد الصناعة الهندى ودائرة دعم الشركات الصغرى والصغيرة البرازيلية إضافة إلى شركات أخرى رائدة، وبمساهمة مجلس استشارى يضم خبراء دوليين متخصصين. ويمثل هذا التقرير بالنسبة لعديد من أوساط الاستثمار وتقييم السياسات العمومية أداة رئيسية لقياس حالة الابتكار فى العالم والتقدم، وملاحظة مسار التنمية فى كل بلد. ذلك أن هذه الوثيقة التى عادة ما يكون لصدورها تأثير كبير على العديد من المؤشرات الاقتصادية، تسلط الأضواء الكاشفة على ترتيب القدرات الابتكارية لاقتصادات العالم ونتائجها. ومهم أن نذكر فى هذا الصدد أن مؤشر الابتكار فى هذا التقرير يهتم برسم الطريق الأكثر وضوحا لقياس الابتكار وفهمه، وتحديد السياسات المستهدفة والممارسات الجيدة التى تعزز الابتكار، كما أن هذا المؤشر يجعل الابتكار فى العالم موقع تقييم مستمر. ومن الطبيعى ألا تكون مضامين هذا التقرير الجديد مفاجئة كما كان الأمر عليه فى السنوات الماضية، حيث تحتل الدول الكبرى المراتب الأولي، إذ تقدمت سويسرا وتربعت على عرش الدول الأكثر ابتكارا فى العالم وتلتها السويد ثم الولاياتالمتحدةالأمريكية، فهولندا والمملكة المتحدة، وفلندا والدنمارك وألمانيا وكوريا وإسرائيل والصين واليابان وفرنسا وكندا. وجدير بالإشارة فى هذا الشأن التقدم المهول الذى تحققه دول شمال أوروبا التى تقطع مراحل بوتيرة سريعة مكنتها من تجاوز قوى تقليدية من قبيل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها كثير. وما كان لافتا حقا فى نسخة هذه السنة من هذا التقرير أنه صنف كل من الشيلى وفيتنام وسنغافورة ورواندا كدول رائدة إقليميًا ومتقدمة فى محيطها الإقليمى من حيث الدخل، واحتلت فى هذا المجال مراتب إلى جانب دول فى وزن جنوب إفريقيا والهند والصين وإسرائيل. ومن الخلاصات المهمة التى انتهى إليها تقرير هذه السنة إقراره أن المشهد العالمى فى مجالات العلوم والابتكار والتكنولوجيا خضع لتحولات مهمة على مدار العقود الماضية، وأن الاقتصادات ذات الدخل المتوسط، لا سيما فى آسيا، تساهم بشكل متزايد فى البحث والتطوير وفى معدلات تسجيل البراءات الدولية، وتنبه الخلاصات إلى خطورة تراجع النفقات العامة فى مجال البحث والتطوير، خصوصا فى بعض الاقتصادات ذات الدخل المرتفع، واعتبر معدو التقرير أن هذا الأمر يثير القلق بالنظر إلى الدور الحيوى الذى يقوم به القطاع العام فى تمويل البحث والتطوير والأبحاث العلمية الأساسية، التى تعتبر مفتاحا للابتكارات المستقبلية. كما سجلت الخلاصات تزايد الحمائية الذى يثير مخاطر، وأنها إذا لم تحصر، فإنها ستؤدى إلى تباطؤ النمو. ويلاحظ معدو التقرير أن مدخلات ومخرجات الابتكار تخضع، لما يمكن أن نصفه بالهيمنة والاحتكار، حيث يقرون أنها لاتزال مركزة فى عدد قليل جدا من الاقتصادات، وأن الفجوات لا تزال قائمة بين الدول، حيث تختزن دول معينة إمكانيات ابتكار هائلة فى حين تبقى دول كثيرة وعديدة بعيدة عن ذلك. وهى خلاصات ذات أهمية كبيرة فى نظرنا، لأنها تؤشر على استمرار مسك اقتصادات معينة بزمام الأمور فى هذا المجال الاستراتيجي، الذى يكشف من اليوم عن مؤشرات واضحة للمستقبل المنظور، لأن قضية التمركز والهيمنة دليل واضح على أن حظوظ الاقتصادات الضعيفة من التنمية المستدامة ستزداد تقلصا فى خريطة امتلاك العلوم والتكنولوجيا لفائدة الاقتصادات الكبرى والقوية، كما أن الإقرار ببطء وتراجع الإنفاق العام على الابتكار والأبحاث العلمية يفسح المجال أمام القطاع الخاص لملء الفراغ بما يحقق مصالحه الاستراتيجية الخاصة ولا يمكن للمصلحة العامة للمجتمعات أن تجد لها موقعا فى هذا الاهتمام، فالتمويل العمومى هو الكفيل وحده بضمان وتحقيق المنفعة العامة من البحث العلمى والابتكار فى العالم. طبعا لن نتساءل عن غياب الدول العربية عن المراتب المتقدمة من هذا التصنيف، والذى تدل المؤشرات الواقعية على استمراره خلال السنوات المقبلة، ونكتفى بالقول، وباستبعاد كامل لقواميس لغة التخلف والفساد وانعدام الكفاءة لدى السلطات العمومية، ونكتفى بالقول بأنه مادامت السياسات العمومية فى البلدان العربية تفتقد إلى عمق استراتيجي، وإلى استشراف مستقبلي، فإن الاهتمام بالبحث العلمى وبالابتكار لن يجد له موقعا فى هذه السياسات، وهذه معضلة المعضلات فى بلدان لا يتجاوز نظر مسئوليها أنوفهم.