لا تلعن القدر ابدا... فما يمكنك أن تراه شرا يمكن أن يكون أفضل ما وقع لك... هذا هو ما حدث "لأخبار اليوم" منذ دخولها الأراضي الليبية حيث تحولت الرحلة من تغطية لأحداث الثورة إلي حياة كاملة مع الثوار في اقامتهم وتحركاتهم ونقاشاتهم. 13 يوما كاملة عشناها بين ثوار ليبيا... واجهنا معهم نيران جيوب كتائب القذافي واحتفلنا معهم بانتصاراتهم وشيعنا معهم شهداءهم واسعفنا مصابيهم... ما بين افطار وسحور... صوم وإفطار... ادركنا أن هناك شعبا عمل عقيده الهارب علي حجبه علي مدي 42 عاما كان فيها هو ليبيا وليبيا هو... ومع سقوط نيرون ليبيا خرج مارد الشعب الليبي من قمقمه وهو الآن يرقص علي أنغام طلقات رصاص الثوار... وفي السطور التالية نعرض الوجوه الجديدة التي اصبحت تعبر عن ليبيا الحرة لا ليبيا ابو شفشوفا كما يطلقون عليه بسبب عدم تهذيبه لشعره بداية الطريق لطرابلس كانت السفر جوا من القاهرة لتونس، ثم لجزيرة جربة، ثم برا نحو معبر راس جدير... وصلنا قرب المعبر وأعادنا الجيش التونسي حرصا علي حياتنا، وشاهدنا عبر الحدود تبادلا كثيفا للنيران بين الثوار والكتائب التي كانت وقتئذ لاتزال تسيطر علي المعبر. تركنا الطريق الساحلي واتجهنا للطريق الجبلي الأصعب للمرور عبر منفذ الذهيبة الذي يسيطر عليه الثوار. خالد عسكر شاب في العقد الرابع من عمره درس الهندسة وعاد لبلاده فلم يجد عملا في ظل نظام يحرص علي بطالة شعبه وعدم إقامة تنمية حقيقة مع اصرار علي تكريس الجهل... انضم للثوار تغيرت حياته وأصبح لديه أمل في ليبيا حرة بلا القذافي. رحب بنا ورفض ان أخذ سيارة أجرة وحدي بين الجبال بعد منتصف الليل. استدعي أحد رجاله وطلب منه مصاحبتي الي نالوت بسيارته. وتحركنا بحذر وقبل الفجر فاجأنا صوت إطلاق صواريخ واضح... اتصلت قيادة الثوار بأكرم وكانت التعليمات واضحة... العودة فورا والسبب صواريخ جراد أطلقتها الكتائب علي محيط مدينة بدر مؤكدين إمكانية امتدادها الي الطريق. عدنا إلي مركز الثوار وسمحوا لنا بالمبيت في ساحته. أكملنا الرحلة للوصول إلي طرابلس مرورا بعدة مدن واجتزنا معا مناطق كان بها جيوب لكتائب القذافي ووقعنا في منطقة مواجهات وغيرنا طريقنا عدة مرات. كانت مغامرة حقيقية ولكن مع دخولي للعاصمة التي وصلتها قبل أن يتشجع الشعب للخروج من منازله وجدت نفسي وحيدة مرة أخري فتجولت بحقائبي مع زميلة يونانية... كان فندق الريكسوس مغلقا منذ حصار الصحفيين به في الليلة السابقة من قبل الكتائب وأكتظ فندقا المهاري وكورنسيا بالصحفيين والمسئولين الجدد رغم وصول سعر الغرفة فيه إلي 250 يورو ليلية ولم نجد مكانا سوي في فندق اسمه الودان وصممنا ألا نخرج منه فباقي الفنادق مغلقة... واحتار العاملون في الفندق الذين كانوا مسلحين لكن بوجوه طيبة، ثم قبلوا وجودنا كنزلاء ورويدا رويدا أصبحنا أخوة وأصدقاء وفتحوا قلوبهم وحكوا قصصهم واكتشفت أنني اقيم في فندق الثوار وأكثرهم من مصراتة وهم أقوي ثوار في ليبيا وقد جاءوا للمشاركة في تحرير طرابلس واستمروا في تنظيف الجيوب من الكتائب ومع توطد العلاقة شاركتهم في بعض حملات التمشيط وبخاصة في ضواحي طرابلس ومنطقة الهضبة وقرب جبهة بني وليد. عرفت فيما بعد ان الفندق ملك لأحد المقربين من القذافي وأنه فر تاركا الفندق فاستولي عليه الثوار مؤقتا ليقيموا فيه حتي تصبح طرابلس آمنة و يعود كل إلي مدينته. ويسمح الثوار بعد مشاورات لبعض الصحفيين بالإقامة ويستخدم المال في إدارة أعمال الفندق... ولعدم دراية الثوار بشئون الفنادق وعدم وجود عمالة مدربة فكان شرطهم ان يقوم النزلاء أنفسهم بتنظيف غرفهم وأن تظل الغرف مفتوحة لأن برنامج عمل مفاتيح ممغنطة للغرف لا يعمل... وللحق اقول انه لم يكن هناك مكان آمن في طرابلس مثل هذا الفندق بغرفه غير الموصدة ولم يفقد أي منا ورقة واحدة أو يخشي علي حياته. الجدل الوحيد الذي دار بيننا كان في إقناعهم بعدم الاحتفال ليلا بأسلحتهم وضرورة إبقاء السيارات بعيدا عن الفندق حتي لا يتم تفخيخها من قبل موالين للقذافي لأن المكان مستهدف وللحق استجابوا لمدة يومين وقاموا بعمل حواجز ثم عادوا في اليوم التالي لوضع سياراتهم وهي مميزة من طراز نصف نقل وتحمل علي ظهرها الأسلحة المتوسطة والثقيلة وكانوا يبتسمون في خجل عندما أعاتبهم. قربت ظروف شهر رمضان المعظم والعيد بين الجميع فكنا نفطر معا ونتناول السحور معا، ومن المشاهد الجميلة عندما يضع مجموعة من الثوار اسلحتهم جانبا ليعزفوا ويغنوا بأصوات جميلة. عانينا معا نفس معاناة سكان طرابلس من انقطاع المياه لأيام وانقطاع التيار الكهربائي لم اعد أخاف من أصوات الطلقات المتتابعة فأصدقائي الجدد من الثوار وغيرهم من أبناء الشعب الليبي الذي اضطر إلي التسلح يتمسكون بعادة اطلاق النار في الهواء للتعبير عن الفرح... صلينا العيد معا في ساحة الشهداء وكذلك ثاني جمعة بعد تحرير طرابلس لأن الجمعة الأولي كان الناس لا يصدقون أن القذافي رحل عن عاصمته. وبحكم اقامتي معهم في نفس الفندق وسماعي عن قصص بطولاتهم أردت أن أعرف أكثر عن مصراتة أو مصنع الرجال كما يطلق الليبيون عليها، تلك المدينة الباسلة التي صمدت وسط حصار دام والتي تعرضت لهجمات لا قبل لأحد بها... وهي الصخرة التي حمت ليبيا من التقسيم بعد أن حاول القذافي الإيحاء بأن المعركة ما بين الشرق والغرب فقامت مصراتة القريبة من الغرب بافساد زعمه... كما أنه من الغريب أن تثور مدينة يعيش جميع أهلها في غني نتيجة لاعتمادهم علي التجارة... الكل أرشدني لبطل مصراتة حسن محمد كارة القائد العسكري الميداني الذي رفض في البداية الحديث عن نفسه قائلا: "منذ بدء الثورة محونا من قاموسنا كل ما له صلة بالنفس... اصبحنا نتحرك جماعة ونستخدم كلمة نحن" اقنعته فبدأ يحكي. أن مصراتة تحول اسمها من ذات الرمال إلي ذات الرجال أما هو فكان يملك سفينة لنقل الوقود وعرف بثورة 17 فبراير من خلال شبكة الفيسبوك الاجتماعية فرسا بسفينته علي مشارف مصراته لحماية اسرته وكان الجميع في البداية مؤيدين لمعمر بحكم التعود ولكن مع تصاعد القمع في المدن المجاورة تظاهر أهل مصراتة يوم 18 فبراير ضد ما يحدث لأبناء ليبيا في بنغازي وفوجيء اهلها بدخول المرتزقة ذوي القبعات الصفراء من تشاد ومالي. ومات 3 منا فكان لابد من الثأر. وخرج 20 ألف مصراتي نواجه مرتزقة القذافي... عندما أخذنا الأسلحة لم نكن نعرف كيف نستخدمها... تعلمنا في الميدان وقاتلنا بقوة... حاصرتنا بارجات القذافي من البحر وكتائبه من جميع الجهات لمدة 4 اشهر" وواصل ثوار مصراتة الذين اكتسبوا سمعة جديدة زحفهم وتوجوه بتحرير طرابلس والتفاوض لدخول بني وليد سلما. ومع تأجيل مهلة تحرير سرت أصابني الضجر وصرت ابحث عن أحداث جديدة. عبثا حاول من الثوار اقناعي بخطورة الوضع وفي النهاية رضخوا لطلبي وصمموا علي خروج سيارتين في حملة تمشيط علي مشارف بني وليد. سرنا في ركب حتي فوجئنا بوابل من النيران تنطلق نحونا فجأة وتلاحقنا... ناور الثوار بالسيارة في الصحراء بمهارة ومرت بنا لحظات قاسية وفزعت عندما صرخ أحد الثوار في العربة التي وراءنا ولكن المرافق أكد لي أن الرصاصة سطحية... خرجنا من دائرة النيران وعدنا إلي الفندق وساهمت في إسعاف الجريح. كنت اشعر بالتأنيب فقرر الثوار اصطحابي لمبني الإذاعة الذي كان مقرا مهما للكتائب خلال فترة حصار طرابلس. وهناك قابلت وجها آخر للثوار وهو ناصر الجرجوحي. وكان ناصر قبل قيام الثورة عاطلا عن العمل منذ عام 1991 بسبب سياسات نظام القذافي ولكنه اليوم بطل حقيقي ينظر له باحترام والسبب ما فعله فجر يوم 20 رمضان، حيث أتي بعلم ليبيا الحرة الذي كان يحتفظ به في منزله سرا وتسلق مبني الإذاعة بينما كان يلاحقه قناص في المبني المقابل بطلقات متتابعة. وبجوار مبني الإذاعة كان يوجد مقر شركة تركية للصيانة حوله القذافي ليكون مقرا فاخرا ل160 جنديا وجندية من كتائب المرتزقة وهم من إفريقيا وأوكرانيا بحسب صورهم التي شاهدناها مع الثوار. كانت مقار الإقامة مجهزة بشاشات التليفزيون العملاقة وأجهزة الاستقبال والأفلام والموسيقي وأجهزة الجيم والبلايستيشن والألعاب المختلفة واجهزة تكييف مع توافر المياه أما الأثاث ففاخر والمؤن متوافرة في كل الأوقات التي كان يعاني منها الشعب في طرابلس من الحصار مع نقص المياه والإمدادات. ولم تخل غرف المرتزقة ومخدرات وآثار تعاطي وبعض المتعلقات النسائية. وفي مبني ملاصق كانت غرف المجندات من المرتزقة ومنهن فتيات ذوات ملامح أوروبية يرجح أنهن أوكرانيات. وفي مخزن الغلال فوجئنا بوجود أرز مستورد من الولاياتالمتحدة كبلد منشأ وتاريخ الاستيراد في مايو 2011 أي أثناء الحرب نفسها وبينما كان الأمريكيون يشاركون علانية في ضربات الناتو. وعند المكتب الأخير وجدنا غرفة اجتماعات تتصدرها لوحة بيضاء عليها خريطة كاملة توضح خطة الدفاع عن طرابلس عند اقتحامها... الخطة حددت القتال عند مناطق أبو سليم والمطار والإذاعة والمخابرات و كتبت علي باب العزيزية خطا احمر. كانت هذه خطة يوم القيامة التي لم تستطع كتائب القذافي تنفيذها وماذا عن خطة الثوار. بادرنا بالاتصال برئيس المجلس العسكري للثوار في طرابلس عبدالحكيم بلحاج الذي أكد أن "الخطة التي وضعت للسيطرة علي العاصمة كان لها علاقة بثلاث جبهات او ثلاثة محاور". الأول كان للثوار حيث أوصلنا إليهم الكثير من كميات من السلاح من الجبهة الشرقية عبر البحر وعبر الجبل الغربي، اما الثاني فهو للثوار الذين كانوا يقيمون علي مشارف العاصمة في الجبل وفي المدن المتاخمة" الثالث هو بمثابة الغطاء الجوي الذي لعبه الناتو وهذه العوامل مجتمعة إلي جانب تشتت كتائب القذافي وضعفها مكنت الثوار من دخول العاصمة وتنفيذ الخطط التي وضعت لها". إذن كان ذلك إعلام القذافي الذي ضلل الشعب لسنوات و في المقابل يحاول الإعلام إعادة بناء نفسه وفي طريق عودتنا مررنا بميدان الشهداء وكان الشباب يوزعون صحيفة عروس البحر وهي أول صحيفة خاصة في طرابلس ويقول فتحي بن عيسي رئيس تحرير الصحفية بفخر: لقد سارعنا فور تحرير طرابلس بتحقيق حلمنا... لم تكن هناك صحف خاصة في ليبيا حتي قام سيف الإسلام القذافي منذ أعوام بإنشاء مؤسسه بالمال العام. ورأس بن عيسي تحرير صحيفة الفجر لمدة اربعة أيام فقط في زمن القذافي و اضطر للاستقالة بعد أن أجبروه علي تجميل صورة النظام وايقاف حملة صحفية. ويؤكد بن عيسي أن حرية التعبير كانت غائبة وأنه آن الأوان كي تعود وفي الميدان التقيت بمجموعة من الشباب الذين أتوا من مصراته وكان احدهم متأثرا وهو يقول: اسمي محمد الكرامي وعمري 21 عاما ولكن ما يهم هو ألا تمحي ذكري صديقي رضا الزريك... كان عمره 18 عاما عندما أصابته رصاصات المرتزقة في زلتين وكان يحلم بدخول طرابلس الحرة وحمل أخوه الأصغر السلاح ليكمل المسيرة وأستشهد ايضا... أرواح كثيرة أزهقت حتي نصل إلي هنا... ارجوكم لا تنعتوا القذافي بالجنون أو تسخروا من خطبه... هو مجرم وينبغي محاكمته ويكمل صديقه زكريا طالب قائلا: "نحن لم نختر حمل السلاح ولكننا اضطررنا لذلك حتي نحمي شعبنا من جنون هذا الرجل الذي ضرب أهلنا بأسلحة مضادة للطائرات وليس للبشر ونطوق للعودة إلي حياتنا الطبيعية" عندما وصلت طرابلس كانت مدينة أشباح لكن كل شيء تبدل في ليلة العيد وبدأ الناس يدركون أن زعيمهم هرب بالفعل علي ظهر التوك توك في سراديبه ولم يبق إلا قنصه. و للاحتفال في ليبيا طعم آخر، فهذا الشعب يعشق الموسيقي والغناء... فمن المنازل والسيارات وميكروفونات الشوارع انطلقت الأغاني والأناشيد الوطنية التي ألفوها خصيصا بهذه المناسبة ولاح في الأجواء علم ليبيا الحرة ورقص الصبية والشباب والرجال في الطرقات وبخاصة في ساحة الشهداء التي كان يسميها القذافي الساحة الخضراء... وعلي الارض انتشرت صور القذافي وعلمه الأخضر يدوسها المارة بارجلهم وسياراتهم... سيدة من بين المصلين في صلاة العيد صرخت بأنها تسمع أصوات أقدام تحت أرض ساحة الشهداء، فسرت حالة من الفزع سرعان ما تبددت بقوة جديدة يعيشها الشعب الذي هجر الخوف للأبد. وأصبح المطلب الرئيسي هو رأس القذافي وعلي أصوات الرصاصات التي انطلقت في الهواء رقص المارد الليبي.