في كل مرة اكتب عن حياتي.. وقد حاولت ذلك كثيرا في كتبي كنت اتوقف عن الحديث عن السنوات الأولي.. عن أبي وأمي. لا أجد مبررا للكتابة عنهما. مع ان هذا ضروري جدا. والسبب أنهما قد أثرا في تكويني. سلبي أو ايجابي.. انه أثر قوي ربما كانت أمي هي الاكثر اثرا لأنها الاكثر حضورا في حياتي .. وهنا يتوقف القلم عن الكتابة. لماذا؟ انقطعت الحرارة! جف القلم .. انسدت الابواب في وجهي وخرست الدنيا. اخفت المعاني فلم تعد لها ضرورة.. اظلم مخي؟! أؤجل هذا الموضوع لمكان آخر فيما بعد.. وأهم ما في هذه الفترة من حياتي ذهابي إلي الكُتاب.. فقد كان الكُتاب حياتي.. كل حياتي. كرهته وأحببته.. ثم كرهته بعد ذلك.. الكُتاب هو المدرسة البدائية.. رجل واحد يقوم بتدريس كل شئ في بيته وهو غرفة صغيرة.. وكل شئ هو حفظ القرآن الكريم. ونحن أميون لانقرأ ولا نكتب.. ولا نعرف معني إيه كُتاب.. إيه مكان نتعلم فيه.. يعني نتعلم يعني نسمع كلام سيدنا.. وسيدنا هذا هو المدرس وصاحب الكُتاب وهو المدرس وصاحب الكُتاب وهو وحده الذي سوف يعلمنا. ولانعرف كيف يفعل ذلك. ونحن لا نقرأ. وسيدنا لا يقرأ لانه أعمي.. فكيف؟ لا أعرف.. ولا أبي قال لي ولا أمي. ولم اجرؤ ان اسأل أحدا.ومن بعيد عرفت مكان الكُتاب. وكنت انظر اليه من بعيد. خوفا من أن يضبطني أحد وأنا أتسلل عليه.. الكُتاب صغير علي الشارع يظهر منه نافذة وباب.. والشارع قذر جدا. أمام النافذة اكوام من القمامات. وفي يوم تشجعت لكي أري اكثر. ورأيت سيدنا. انه رجل عجوز قصير القامة في حالة تكشير دائم. طبيعي فليس في حياته ما يبعث علي البهجة.. وبعد دقائق ظهرت بنت صغيرة شعرها منكوش شاحبة الوجه.. ويدها صغيرة كأنها رجل بطة أو كأنها عجينة. وهي التي تسحب سيدنا.. ولم اتبين بالضبط ماذا قال لها.. لابد انه شتمها لانها تركته وحده. ولكن البنت قد اعتادت علي ذلك فلم يظهر عليها أي اثر.. ولابد ان هذا الشعور العام الذي يلقاه سيدنا. ولابد أنه يشخص وينظر والناس لايسألون عن ذلك لانهم اعتادوا.. وهو قد اعتاد علي مبالاة الناس.. اذن الطلبة الصغار هم الذين سوف يسألون وسوف يترك فيهم سيدنا الأثر والألم.. وهم بذلك يعوضونه تماما عن الذي يلقاه في بيته وفي اسرته الصغيرة التي هو لايراها كأنه شبح.. وهي لاتسمعه.. ولابد ان اسرته أو زوجته تقول: علي إيه: أي ما الثمن لكل هذا العذاب مع هذا الرجل. ولكن لماذا؟ زوجته لابد ان يكون السبب انها لم تجد غيره.. أو ان اهلها هم الذين اقنعوها.. ياتري اقنعوها بماذا؟ وكيف اقتنعت أو ليس من الضروري أن تقتنع انها تزوجته وبذلك اختصار لمتاعب اسرتها وتكاليف المعيشة. فلابد ان اسرتها ايضا لاتقل جوعا عن أسرة سيدنا.. ولم أر زوجته حتي الآن.. اذن غدا اعود.. فباق علي الذهاب إلي الكُتاب اسبوع.. وذهبت. ورحت انفض التراب والطين عن ملابسي. فقد كانت غرقانه وكانت البهائم ذهابا وايابا تطرطش علي ملابسي. والناس يقولون: يا أفندي ايه اللي وقفك هنا.. اذن انا شكلي افندي.. اذن انا مختلف. مع انني ارتدي جلبابا وشبشب ككل الناس.. اذن هم بعض الخفراء أو الخدم الذين يعملون مع والدي في القصر الذي يملكه عز الدين باشا يكن اخو عدلي باشا يكن الذي كان يعمل عنده ابي مفتشا للزراعة فلما توفي انتقل إلي العمل مع نعمت هانم يكن أخت عز الدين يكن.. وامام الحاح كثير من عرفوني أجلت رؤية الزوجة إلي الغد. ولايزال الوقت كافيا لذلك. وفي اليوم التالي اقنعت عددا من زملاء الكُتاب ذهبنا.. ووقفنا امام الباب. انتظرنا جاءت زوجته صارخة. فقال أحد الزملاء انه يضرب زوجته. كيف؟ قالوا: يمسكها من ذراعها وينهال عليها ضربا بالعصا! وكان ذلك كافيا في ذلك اليوم. وانشغلت طول الليل افكر واتخيل كيف يضربها. وكيف لاتتخلص منه. وكيف ان احدا يسمعها ولا يسرع لانقاذها. وابنته الصغيرة تنتظر دورها. يضربها وتصرخ وتبكي. وامها لاتتقدم لتدافع عنها. لقد اعتادوا علي ذلك.. ولم أحاول بعد ذلك ان انتظر لكي أري زوجته. فبعد اسبوع سوف أري كل شئ. وتضايقت انني سوف أري هذه الاشياء: ضرب وصراخ وبكاء وكل يمشي في الشارع كأن احدا تحت الارض يتوجع ويتلوي. وان رجلا جبارا يمسك عصا. يضرب ولايهمه أين تنزل عصاه.. لايهم. هو اعتاد علي البكاء والصراخ.. والبنت وامها اعتادت علي الشتيمة والضرب.. وازعجني ان يكون ذلك في غرفة واحدة.. نحفظ القرآن وضرب البنت وامها في مكان واحد.. وسيدنا أعمي يهدد ويطرح بعصاه يمينا وشمالا ياتصيب ياتخيب. وياتري سوف يضربنا سيدنا.. بالطبع لا .. انا أبن المأمور والثاني ابن العمدة والثالث ابن صاحب وابور الطحين.. والرابع قريب له.. ربما هذا هو الذي يستطيع ان يضربه. وبعد غد سوف نري كل شئ أو عينة من ذلك! ووجدتني أريد أن افهم من والدي معني هذا الكُتاب.. وقد ذكرت له كل ما عرفت. ولم أفهم ما الذي يضحك أبي.. ثم لايرد .. وينادي الخادم ويطلب اليه استدعاء صاحب وابور الطحين. وجاء رجل ضخم علي ملابسه دقيق.. ومسح وجهه واخرج منديلا كبيرا من جيبه ثم يمسح وجه الذي تهلل استعدادا لما سوف يقوله والدي.. ويبدو ان الخادم قد اخبره بكل ما سمع. فاذا به يتجه لي ويقول لي: سيدنا رجل طيب واذا كان يضرب مراته فمراته طول الوقت يبحث عنها فتكون عندي في الوابور والبنت بتلعب في الحارة أصلها بنت صغيرة .. هاها. ويقترب من والدي ويهمس في اذنه ويضحك الاثنان. ولم أفهم ما الذي سوف يفعله سيدنا هل سيضربنا مثل زوجته وابنته واستبعدت ان يفعل شيئا من ذلك. وفي ساعة مبكر ة ايقظتني أمي.. وقد أعدت السندوتش من الجبنة البيضاء التي برعت في صناعتها لدرجة ان الكثيرات من صديقاتها يطلبن اليها كيف تكون الجبنة بهذا الجمال وهذه الطعامة وكانت أمي لاتمل هذا الاطراء عليها ولما قلت لها انا ايضا اسعدها أن يكون هذا رأيي. وكنت كل يوم اتناول السندوتش بالجبنة وهو افضل وألذ من السندوتش الذي يشتريه الزملاء من الرجل الذي يقف عند المدرسة الابتدائية. ودارت الايام كلها متشابهة تماما. الصباح الباكر نذهب إلي الكُتاب وسيدنا مايزال نائما وتطلب منا زوجته ان نساعدها في كنس البيت وفي تقطيف الملوخية وتقميع البامية والخبز الذي يجب ان يكون ساخنا. وكذلك الفطير المشلتت الذي يتناوله سيدنا مرة كل أسبوع والفطير بقدر ماهو لذيذ، هو قطعة من العذاب. فلا تكاد تقترب زوجة سيدنا منا حتي تكون له رائحة جميلة جدا تلخبط.. فعلا انا تلخبطت وأنا أقرأ فما كان من سيدنا إلا ان ضربني بالعصا. وكاد يقتلع احدي عيني. فالرائحة قوية نفاذة.. ويبدو ان سيدنا لم يلاحظ ان العصا لم تصطدم برأسي أو عنقي فقال: أنت ياولد يا أنيس.. أنت فين.. تقدم قليلا.. أبوك موصي عليك اذا لعبت ان اضربك واذا لم تنصلح استدعي اباك ليتولي هو ضربك.. اقترب حتي اضربك بدلا من أن اضرب زملاءك .. اقترب. وبدلا من ان اقترب رفعت ذراعي لتصطدم بها عصا سيدنا. ولاحظ ذلك فقال: اقترب بجسمك لابيدك اقترب والا شكوت الي ابيك. ولكن ما الذي فعلته.. لا شئ اكثر من الدفاع عن النفس وأنا أخشي أن أجد عصاه في عيني وأنا لا اسخر منه وانما أنا أدافع عن عيني.. ولم أجد فيما حدث سببا كافيا للشكوي من سيدنا.. وفي يوم حاول سيدنا أن يعاقب أحد الزملاء فنزلت العصا علي دماغي أنا.. فصرخت.. وقد اعتدنا علي ذلك فسيدنا أعمي ورغم انه يعرف مكان كل واحد منا ويضربه فلا يخطئ.. وهذه احدي المرات التي طاشت فيها ايدي سيدنا.. ولما سألت أمي عن هذا الذي اسال دمي فقلت لها. ولم تصدق. وخيل إليها اني أخطأت في شئ.. فبعثت من يسأل.. وقيل لها انه سيدنا.. رأيت الاطفال يقفون ويكلمون اباءهم. ويتناقشون صدا ردا. واندهشت فأنا لا استطيع ذلك. وقد حدث كثيرا أن احنيت ركبتي وقلت حاضر يا ماما. يعني انا آسف ولن اعود إلي هذا ابدا.. أما أصدقائي فهم يرفضون ويعارضون ولكن أحدا من الاباء والامهات يواجه الاطفال بالرفض النهائي. فمثلا صديقي اسماعيل أمه تركية ويقال لبنانية ويقال ايطالية ويقال يهودية وهي سيدة لطيفة وظريفة جميلة كريمة.. فهي عندما تري أحدا من أصدقاء اسماعيل تحتفل به وتسأله عن بابا وماما وعن المذاكرة. ويكفي ان يكون صديقا لابنها اسماعيل. وسمعت حوارا هكذا: اسماعيل يقول: ماما انا عاوز فلوس علشان فيه رحلة للمدرسة الاسبوع القادم. الام: كم يوما؟ اسبوع ياماما.. عاوز قد إيه يا أبني؟ عاوز جنيه.. سوف اعطيك اثنين من الجنيهات فقد تدعو اصدقاء ك إلي غداء أو عشاء.. لاتنس اصدقاءك هم كنوز الحياة. سوف تحتاج إليهم ويحتاجون إليك.. إنهم في أحيان كثيرة أحسن من اخوتك ومن أولاد عمك. اسماعيل: ماما أرجوك »ويتلفت يمينا وشمالا« ماما.. صديقي فؤاد فقير جدا ويتمني أن يشترك في هذه الرحلة. حاضر ياحبيبي. بس كيف تعطيه الفلوس؟ أنا ادفعها.. واقول له انها دعوة مني.. وأنا دعوت شوقي لنكون معا.. وأنت دعيت شوقي.. لا.. لا أفهم.. لايتصور انه الوحيد الذي دعوته بمناسبة عيد ميلادي.. ولكن عيد ميلادي مضي عليه خمسة شهور! حكاية خيالية ياماما.. وحيلة لكي اجعل لهذه الدعوة مناسبة. اوكي. اشكرك يا أبني أنا أحب مثل هذه المواقف. حاول ان تدعوه مع بقية اصدقائك إلي غداء أو عشاء. حاضر ياماما.. شكرا جزيلا.. ومثل هذا الحوار مع أم صديقي عبدالتواب وكنت قد سجلت هذا الحوار في مذكراتي. ولم تعجبني الطريقة التي كتبت بها الحوار بين عبدالتواب ووالديه فكانت المناسبة عيد ميلاده.. ولم أنس هذا الحوار.