لاشك ان حمي الثورة التي اجتاحت العديد من الدول العربية حركت المياة الراكدة في بحيرة الحياة السياسية في المنطقة وبثت الروح في قطار التغيير والاصلاح الذي أصابه الصدأ من قلة الاستخدام والذي يبدو انه توقف عند محطتي مصر وتونس. ورغم ما اكتسبته تلك الثورات من زخم سواء تلك التي بدأت في حصاد مكتسباتها أو تلك التي لم تؤت أكلها بعد فإنه من الخطأ ان نتصور ان نجاح هذه الثورات وحده أمر كاف لخلق شرق أوسط جديد. فالمنطقة "حبلي" بقضايا وصراعات أخري بمثابة القنابل الموقوتة كما أسمتها المحللة شارمين نارواي في مقالها بصحيفة "هافينجتون بوست".هذه القنابل تهدد بإبقاء منطقة الشرق الأوسط علي صفيح ساخن واستمرارها كبؤرة مفتوحة للصراعات. القنبلة الأولي تتمثل في الصراع القائم بين العلمانيين من جهة والاسلاميين من جهة أخري. ومع اختلاف المسميات من بلد لأخر ومن مجتمع لآخر فان الصراع في عمومه بين مجموعة المثقفين وشباب الفيس بوك الذين يرغبون في دولة مدنية والاسلاميين الذين يرغبون في دمج السياسة بالدين. وقد لعبت واشنطن بمهارة علي هذا الوتر، خاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر عندما وضعت كل الجمعيات الاسلامية المتطرف منها والمعتدل في سلة واحدة مع عدوها اللدود "القاعدة". واستغلالاً لهذا الوضع قامت أمريكا باستخدام حلفائها في العديد من الدول ومنها مصر ولبنان والاردن والمغرب والجزائر في وضع العراقيل وفرض القيود علي الحركات الاسلامية في تلك الدول و حرمانها من تبوؤ مواقع قيادية. وعلي هذا الاساس ظل الاخوان المسلمين في مصر يحملون لقب المحظورة ويتعرضون للاعتقال والترهيب والتعذيب. كما تم استنفاد كل الطرق الممكنة وغير الممكنة لإقصاء حماس عن السلطة في الأراضي الفلسطينية رغم نجاح الحركة الكاسح في الانتخابات. لكن الآن ومع فشل الادارات الامريكية المتعاقبة في تحقيق أهدافها وبالنظر للتكاتف الذي شهدته ثورة كثورة مصر حيث وقف الاخواني والعلماني و المثقف والمسيحي يداً واحدة أثبت أنه يمكن تحقيق هذا التوحد والتغلب علي محاولات تقسيم البلاد ما بين علماني و إخواني وسلفي. القنبلة الثانية الأكثر انتشاراً خاصة في دول الخليج وهي الصراع السني الشيعي الخلاف بين السنة والشيعة أمر لا يمكن نكرانه فهو خلاف نشأ منذ أمد بعيد لكن الجديد هو تطوره من خلاف ديني أو مذهبي إلي خلاف سياسي ويمكن تأريخ هذا التحول إلي قيام الثورة الاسلامية في إيران والتي تبعتها سنوات من الدعاية الشيعية ومحاولات لنشر المد الشيعي في عدد من الدول العربية وعلي رأسها لبنان وسوريا وبعض دول الخليج ومع بدء مد الثورات العربية ووصوله للخليج بدأت المواجهات بين السنة والشيعة واستغلت الأيدي الخفية هذا الخلاف لتختزله إلي صراع علي السيادة بين إيران الشيعية والسعودية السنية وتم التركيز علي ما يتعرض له الشيعة في أفغانستان والعراق والبحرين والسعودية ولبنان من اضطهاد وسط تخاذل أمريكي مريب، حيث لم توجه سوي نقد هزيل للاجراءات التي اتخذتها الحكومات هناك لقمع الثوار في البحرين، وهو ما فسره البعض علي أنه صفقة تعطي واشنطن من خلالها السعودية المساحة الكافية لسحق الثورة الشيعية في الخليج في مقابل تمريرها لقرار التدخل العسكري في ليبيا وهو ما نشرته صحيفة "آسيا تايمز". بل إن مسئول سابق في وزارة الخارجية رفض ذكر اسمه أخبر شارمين أن التدخل الدولي في ليبيا الهدف الرئيسي منه هو تحويل الانتباه عما يحدث في الخليج. القنبلة الثالثة وهي الأوسع والأعم هي وضع العرب في مواجهة دائمة مع إيران وطبقاً للمحللة شارمين فإن هذه القضية ستعيد تعريف الشرق الاوسط وتحدد معالمه. في صحيفة نيويورك تايمز كتب ديفيد سانجر ان الثورة في العالم العربي تهدد مجموعة الحلفاء التي تدعم الاهداف الامريكية الخاصة بايران وأن صنّاع القرار في أمريكا دائماً ما يضعون الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أذهانهم في كل موقف أو قرار يتخذونه بخصوص الشرق الأوسط. فبحسب الكاتب الهدف الرئيسي لادارة أوباما في الشرق الاوسط هو احتواء المارد الايراني وكل قرار يتم اتخاذه من ليبيا إلي اليمن إلي البحرين إلي سوريا لابد ان يخدم الهدف الاستراتيجي الأول وهو إبطاء البرنامج النووي الايراني والتعبئة لثورة مماثلة في إيران. لكن الحقيقة أن هذه الحركات الثورية ستقضي علي أحلام أمريكا في المنطقة دون أن تمس إيران بسوء. فالثورة في إيران لم تشتعل و كتلة الزعماء في المنطقة الغير الموالين لأمريكا لا يزالو ينظرون إلي ايران علي كونها لاعباً رئيسيا وفعّالا. حتي الثورات الناجحة في مصر وتونس تسعي لانتزاع السلطة و السيطرة بعيدا عن الحرس القديم الموالي لأمريكا. وخير دليل علي ذلك ما أعلنه وزير الخارجية المصري بشأن استئناف العلاقات مع إيران بعد ثلاثين عاماً من الانقطاع. صحيح أن الثوار علي مختلف مذاهبهم وجنسياتهم كانوا من الذكاء والوعي السياسي الكافيين ليتجنبوا هذه الاختلافات والصراعات ويرتقوا بمطالبهم الشرعية فوق هذ الفوارق طائفية كانت أو مذهبية أو حتي عقائدية. لكن حذاري من الأيدي الخفية الحريصة علي إبقاء هذه القنابل قابلة للاشتعال حتي تظل هذه الشعوب عرضة للتقسيم وهدفاً للصراع الدائم.