ساقتني الأقدار لقراءة صفحات غامضة من حياة طاغية متجبر، والاطلاع علي شهادات حية لضحايا من خلف أبواب قلعة "العزيزية " المنيعة، ذلك المكان الذي يعكس اسمه معاني الفزع والرعب والاستبداد، وانكشف أمامي لأول مرة نوع من الجرائم والانتهاكات الإنسانية والممارسات الوحشية، تضاءلت أمامها ما عداها من جرائم سبق أن قرأت أو سمعت عنها طول حياتي المهنية والإنسانية !! كانت البداية عندما تلقيت دعوة لحضور ندوة دولية بمقر اليونسكو في باريس حول كتاب " الطرائد" للكاتبة انيك كوجان، وذلك في إطار الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، وقتها لم أكن أدرك أن الكتاب الذي أحمله بين يدي، ما هو إلا صفحات تقطر دما وتفيض بالجراح والآلام، وأن السطور التي تمر أمام عيني، ما هي إلا أنين صرخات وآهات ضحايا قهر وسحق ووحشية دامت لأكثر من أربعة قرون، ولم يخطر بخلدي أن تلك الوثيقة المفزعة تحمل نوعا من الجرائم لا يسقط بالعقاب!. جرائم يترصدها التاريخ ويقف لها بالمرصاد، جرائم تغتصب شرف الأمة وتنتهك عرض الوطن ، وتحول حرائره إلي طرائد وسبايا ! جرائم تتواري منها الضحايا خجلا وتنزوي بعيدا عن الأنظار ، تنزف وحيدة في صمت أشبه بصمت القبور !! ومنذ الوهلة الأولي أيقنت أنني أمام نموذج استثنائي من البحوث الميدانية، يفضح صفحات من حياة الديكتاتور الليبي معمر القذافي الذي اعتقد أنه "سيد العالم ومليكه"، ويرفع الستار عن الممارسات الشاذة والجرائم القذرة التي ارتكبها هذا الطاغية الفاجر ضد الحرائر من نساء ليبيا، وكيف وظف ذلك "المهرج المهووس" سلاح الجنس للسيطرة والتسلط وقمع الشعب !! وقد استغرقت رحلة البحث عدة شهور من التنقيب في ليبيا ما بعد الحرب ، استطاعت خلاله كاتبة جريدة اللوموند ، بمساعدة ثائرة ليبية شجاعة أن تكشف سيناريو غير مسبوق في تاريخ البشرية، وتسلط الضوء علي أبشع جرائم ارتكبها طاغية عبر القرون ! ، وقد تضمنت النسخة العربية من الكتاب مقدمة تشرح فيها الصعوبات والمخاطر التي خاضتها، والتهديدات والضغوط التي واجهتها خلال العمل ، وتبرر توظيف بعض المفردات " القاسية " التي تنفر منها اللغة، ويرفضها العقل والقلب، والتي فرضت نفسها علي النص كمصيبة لابد منها، معتبرة أن حذف أو استبدال دناءة تعبيراته القميئة، وكلماته السوقية، يؤسس لخطيئة بحق الضحايا ويعد تسامحا مع المجرم !! البداية كانت رحلة بحث الكاتبة الفرنسية عن أسباب غياب المرأة الليبية عن مشهد انتفاضات الربيع العربي، رغم قوة حضور التونسية في النقاشات العامة، وعنفوان جموع النساء المصريات المتظاهرات والمتحديات لكل المخاطر بميدان التحرير، ولماذا يتم إخفاؤهن في هذا البلد الذي استحوذ زعيمه المهرج علي كامل المشهد واتخذ حارساته الأمازونيات بلباسهن العسكري واجهة لثورته ؟! وبالفعل هداها البحث إلي دور النساء الحاسم، حيث كانت تمثل السلاح السري للثورة، فهن من قام بتشجيع المقاتلين و إطعامهم وإخفائهم وعلاجهم وتزويدهم بالمعلومات والسلاح، وخاطرت كل منهن بتعرضها لسلاح الاغتصاب والتعذيب الذي كان يتهددها من كتائب القذافي ! ولكن ظلت علامات استفهام تطل من رأسها بعد كلمات إحداهن : " إن النساء كان لهن ثأر خاص مع القذافي وكان يجب أن تسويه "! وسرعان ما علمت أن كل واحدة منهن كانت ضحية محتملة للزعيم !! وبعد لقائها بالفتاة الجميلة "ثريا " تحول مسار بحثها تماما، وللحديث بقية..