وجدي الكومي احد أدباء الشباب المميزين الذين صنعوا بصمتهم في الكتابة الروائية الجديدة يقول عن روايته " الموت يشربها سادة " : أن أفضل استغلال لهذه السطور أن أروي قصة أخري موازية لظروف كتابة " الموت يشربها سادة"، وهي الفترة التي قضيتها مصاحبا لوالدتي في أيامها الأخيرة، أتذكر قبل دخولها لحجرة العمليات، كانت لم تزل تعاني من آلام السرطان، والذي ظل يوجعها بضرباته المباغتة طوال شهرين كاملين، ولكن في هذا الصباح الذي حدده الأطباء لإجراء الجراحة، كانت تسأل أشقائي عني، وكنت وقتها قادما من سفر بعيد، لأراها لآخر مرة وهي لم تزل واعية. لم أكن أتوقع رحيلها بهذه البساطة، كنت أظن أن الأمر لا يغدو عملية جراحية بسيطة، ستخرج منها متعافية بإذن الله،. أتذكر دعاؤها الأخير جيدا،كما أتذكر أن أصابعها ظلت في أصابعي بينما أصحبها عبر طرقات المستشفي الطويلة، إلي حيث حجرة العمليات، هناك افترقت أصابعنا، ودخلت، بينما زوج شقيقتي يلقنها الشهادة، لا أعرف لماذا ظللت جامدا في هذه اللحظات، حتي عندما مرت 3 أيام بعد ذلك. مر علي هذه القصة الحقيقية التي رويتها أعلاه 3 سنوات ، ورغم أن الكثير من تفاصيلها ورد بنصه في الموت يشربها سادة، إلا أن تفاصيل أخري لم تزل تلح علي ذاكرتي، وأحببت أن أوردها هنا في هذه السطور. أما الرواية فتدور أحداثها حول رجل إسعاف يقوم بقتل مصابين داخل عربة الإسعاف، بدلا من إسعافهم، ويحدث هذا التحول في شخصيته بعدما واجه ازمة مرضية اجتاحت عائلته ، حيث حولهم السرطان إلي أنصاف أحياء وهو ما عجل برغبة البطل في منح رحمة عبثية إلي المصابين الذين يتوجه لإنقاذهم. حواديت عيل موكوس أما الكاتب الشاب مراد ماهر يقول عن روايته »حواديت عيل موكوس«: ربما كنا وما زلنا بحاجة ماسة لنظريات نقدية متوغلة في عروبتها لتمهد دروبا جديدة أكثر تحررا وتأصيلا لملامح بيئتنا، وأكثر تفاعلا وتفعيلا للذائقة العربية الأكثر شمولا والمحلية الأكثر استيعابا لمتطلبات ما ينبثق من الأصل ليشكل ظلال الأفرع . ما زلنا بحاجة لتأصيل مفهوم غاية في الأهمية وهو أن الأدب بكل أشكاله وألوانه فن يحمل علي عاتقه من الجذور مسئولية الامتاع ,ويكتمل كيانه برعايته أفرع لا تقل في أهميتها عن الأصل وتتشكل هيئتها بحالات التأمل والفلسفة والوعظ والايحاء الهادف. شأنه في ذلك شأن كل ألوان الفنون. ما زلت علي يقين ان استيعاب أي جديد شئ يصعب علينا , ربما لأسباب نفسية قد لا نلام عليها , وربما لتشبثنا بكل أطرافنا بأي حافة مرتفع نصل اليها ضمانا للبقاء جاهلون أن من أسفل منا هضاب تنبسط ثم تنتهي حوافها بأخري أكثر استيعابا لنا وللآخرين . كل هذه الأسباب وغيرها، دفعتني للاقتراب من المتلقي بطريقة أظنها مختلفة كما أظنها أكثر قدرة علي التوغل في تفاصيل ذائقته وما خفي منها. عمدت فيها لاستخدام لغة تنسجم في ذات الوقت الذي تعبر فيه عن سمات بيئتها وشخوصها، وتلونها بتلقائية وبساطة ريشة طفل لاه، وتشرح تفاصيلها برمزية عجوز ناقد .كما تحمل بين طياتها إيقاعا قد يحقق ما عمدت إليه من تحقيق لون من ألوان الإمتاع... وفي كل الأحوال.. يبقي الحكي هو البطل الأول في تشريح بيئة النص ورسمه وتلوينه .قصة الكاتب مراد ماهر عبارة عن حواديت وحكايات تبدو لنا معتادة ولكنه يخفي وراءها مرارة واقع حياتنا اليومية الانتصار للهامش أما هاني عبد المريد فيقول عن روايته "كيرياليسون .. الانتصار للهامش " : سأبدأ بالدخول من بوابة السرد ، تلك البوابة المغرية ، التي من الممكن أن تهب عمرك كله لمجرد المرور منها للجانب الآخر ، هذا الجانب الذي قد يبدو شديد الأهمية ، بحيث تستحيل حياتك دونه ، لأجلك يكتب الشعراء النثر ، ويَسمون شعرهم بالنثري دون أي غضاضة ، ويتحملون إقصاءهم عن المسابقات والجوائز ويتقبلون معاملتهم كقطيع منشق بصدر رحب.. مستثني لغة السرد، صرت كالمجذوب الذي لا يجد متعته إلا مع صفحات كتاب أو علي صدر ورقة بيضاء، يبثها حزنه.. قبل أن أكتب لاحظت أن العوالم التي تجتذبني كقارئ عوالم الأرض والعرق ، أحب أن أشم رائحة العرق في صفحات الكتاب وليست رائحة العطور ، لا أحب القصص و الروايات التي يجلس بطلاتها علي " البسين " ، ويرتدي أبطالها رابطات العنق ، عندما بدأت الكتابة لم أكن أركز في هذا المفهوم كنت أكتب وأحس أنني أحلق مع قصص مثل " شراسة لا تسئ للبعض " ، أكتب وتنتابني موجة من الضحك مع قصص مثل " حكاية العازف الأعمي" ، أكتب وأبكي ، أكتب وتزداد دقات قلبي ، أعيش مع شخصياتي تماما ، أشعر أنني أتوحد معهم أحيانا .. عندما كتبت رواية كيرياليسون ، لم أتخذ قرارا بالكتابة ، نزلت إلي حي الزرايب للعمل كاخصائي نظم معلومات ، ظللت لفترة كبيرة منقطع عن الكتابة ، اي كتابة هذه والناس يعيشون وسط " الزبالة " عما ستتكلم وتكتب ، الحرية ؟ الحب ؟ الحياة ؟ كل ذلك يتواري أمام رحلة البحث عن رغيف الخبز، أنت قد تفقد حياتك ثمنا لخمس جنيهات.. في كيرياليسون كانت روحي تنتصر للهامش ، كنت كعادتي أداعب الأوراق ، ألعب بالكتابة ، أمارس حيلي التي تمتعني ، لأكتشف بعد ذلك أن الرواية ضمت هوامش ، وأن بالهامش مثلا شخصية كاملة - أبو حليمة - لم تظهر أطلاقا في متن الرواية ، ولكنه ظهر واختفي في الهامش مثلنا جميعا ، فقد أتسع مفهوم الهامش لدي ليسعنا جميعا ، فإذا كان هناك من هامش بالنسبة لي ، فأنا أيضا هامش بالنسبة لآخر ، الهامش بالرواية لم يكن لشرح جملة بل كان لإضافة معلومة أو شخصية أو شعور ، الهامش كان فاعلا. أمنا الغولة أما الكاتب الطبيب محمد داود فيقول عن روايته " أمنا الغولة الحكاية الأصلية : عند الشراء، نضطر كثيراً للفصال والرضوخ لبائع لم يضف شيئاً للسلعة، يحصل التاجر من السعر علي نصيب أكبر بكثير من المنتِج الأصلي، والخاسر المأكول دائماً هو المستهلك النهائي، رأيت ذلك نوعاً من التغول، ناس تأكل الناس، وكرهت التجارة، إنها شر لابد منه لتسير الحياة، بل إن الكثير من الباعة متكبر متجبر، ويكدس الوكلاء التجاريون الثروات من بيع منتجات لم يضيفوا إليها شيئاً، كغيلان تأكل البشر، وهذا ما تجسده رواية (أمنا الغولة). كل شخصية خرافية مخيفة بالحواديت الشعبية تجسد ملمحاً أساسياً من المخاوف، النداهة مثلاً تغوي، العفاريت للترهيب فقط وقلما يؤذون، أما أمنا الغولة فتفعل كل شيء تقريباً؛ تأكل البشر، ويمكنها أن تسحرهم وتسخطهم، وقد تسحر نفسها علي سبيل الخداع. الحكايات تختزن، وتحدث لحظة ما من الانفجار؛ فوجدتني أكتب (أمنا الغولة) عن غولة تعيش مع ابنها في شكل بشري، وتدربه علي صيد الناس وأكلهم، وهي رابع رواياتي بعد (قف علي قبري شويا) و(السما والعمي) و(فؤاد فؤاد)، وتحكي وليمة افتراس في ليلة شتوية تبدأ بوصول سيارة تحمل البطاطين لقرية صغيرة، تصيد الغولة وابنها الباعة كما يصيدان الناس بالقرية علي مدي بعيد، وهؤلاء الباعة قبل صيدهم تستضيفهم أسرة فقيرة، تجهز ابنتها للزواج، وبعد فصال مرير، تشتري الأسرة بطانية رديئة بأضعاف سعرها الأصلي. الفصول الثلاثة تقول الكاتبة رباب كساب لا أعرف لما تذكرت شجرة البولونيا التي تزهر شتاء بعد أن تُسقط جميع وريقاتها حتي لأنك تشعر بزهرها الأبيض كندف الثلج علي فروعها العجفاء ، ووجدتني في لحظة أدرك أن هناك حياة تولد من عدم وتأكدت أننا من الممكن أنْ نخلق لنا وجودا ونستشعر جمالا من قلب القبح الذي يحيط بنا وكانت تلك البداية بداية الفصول الثلاثة . ( تتجرَّدُ أشجارُ الخريفِ من وريقاتها ، لكن هناك أشجارًا تُزهِرُ بلا ورق ، تأبي أن تتعرَّي العظامُ تواري سوءاتها بجمال زهرها ؛ فتخطف الأبصار في خريفها). اخترت البداية مع سعيد الكاتب الستيني العمر وزوجته وصديقه الرياضي حملت علي كاهلي أعمارهم لأستشعر معهم وهن شيخوخة تزحف للحياة التي كانت مليئة بالكثير من النجاحات وخيبات الأمل ، تلك الطفولة التي نرتد إليها مرة أخري ، كيف نستقبل الضعف القادم وقد اعتدنا المواجهة ، كيف يشاهد الإنسان منا جسده وهو يضعف تدريجيا ، والقلم الذي طالما أعطي يخبو نوره ، والبريق الذي يحيط بنا ينحسر. سرت مع الجميع أبحث معهم عن ربيع يظنونه هو السعادة بعينها وأنه الفرصة الثانية للحياة من جديد . لكن السعادة ليست فقط ربيعية مزهرة ، ولا صيفية جامحة ، ولا هي شتاء ساكنا أو خريفا يغزوه العدم . كان عليِّ أنْ أعرف معهم أننا نستطيع كشجرة البولونيا أنْ نسعد وقتما نريد علينا أنْ ندرك أنَّ بإمكاننا استغلال كل ظروفنا وأن نتمكن من البدء من جديد متي أردنا ذلك . بت أتقلب بين أعمارهم ورغباتهم بين الستين والأربعين والثلاثين راغبة في سبر أغوار حياتهم التي اكتشفتها معهم علموني صحبتهم . (اختياراتنا أوجاعنا .... خطانا علي سلَّمِ العُمْرِ مزيجٌ من دمٍ ، ودموعٍ ، ولحظاتِ فرحٍ قليلةٍ ، عثرات ، وصراعات ، وانتصارات ..... والنهاية عُمْرٌ لا نعرف لنهايته سبيلاً ) . ما بين طفولتنا الأولي والثانية تتجلي الحياة بكل صورها ، ويتجلي عناد الإنسان متمثلا في اختياراته التي تصنع من وجوده فاصلا ، ومع كل اختيار ينظر لما حقق هل جني ما يُرجي منه أم أنه فقط اشتري الوجع ؟ وكم من اختيار نوشك معه علي الموت !! كنت حريصة ألا يحس القارئ غربة علي صفحات الرواية كنت اريده أن يري تلك الصفحات مرآة له ، من قلب حياته حتي لو وجد نفسه : لازالَ يبحثُ عن الربيعِ كلُّ من تاقت نفسُه للحياةِ ، أي حياة قد تحملُ في طيَّاتِها غيوم الشتاءِ وحرَّ الصيفِ وتقلُّباتِ الخريفِ ..... لكنَّ النهايةَ دائمًا ليستْ ربيعيَّةً مُزهِرَةً .