تمضي الأعوام علي أهل سوريا وتأبي المشاهد المؤلمة أن ترحل عن الوجوه التي مازال في عمرها بقية بعد أن نجت من الصواريخ والقنابل وغارات الطائرات والبراميل المتفجرة وبعد سلسال لم يتوقف من حوادث الموت بردا وغرقا ، ترسل سوريا إلي العالم في بداية العام الجديد صورا جديدة لموت من نوع آخر هو الموت جوعا. وكما حدث في الماضي مازال العالم يتابع قتل الأبرياء في صمت مخزٍ لكنه لا يشبه بأي حال من الأحوال العار العربي العاجز عن حماية وإطعام الآلاف بينما يهدر ملياراته في عروض الألعاب النارية احتفالا بقدوم عام جديد. ولأن الطائرات الدولية التي تحلق في سماء سوريا ملعونة فهي لن تحمل في مهمتها للقتل والدمار سوي الموت..ولن تري أين تسقط صواريخها ؟ ومن تقتل ؟ ولن تفكر في إلقاء الطعام لهؤلاء الجوعي المدرجين علي قوائم الموت. من داخل بلدة مضايا السورية تتجلي إنسانية هذا العالم الذي ترك الآلاف من السوريين يأكلون القطط والكلاب وأوراق الشجر كي يبقوا علي قيد الحياة وبعد حصار ستة أشهر من قوات النظام وميليشيات حزب الله استشهد 32 شخصا من الجوع وارتفعت أعداد حالات الإعياء التي تصل للمستشفيات لتصل إلي200 حالة يوميا بينهم أطفال وكبار في السن. أبو يوسف البرجلي محاسب في الأربعينيات تحدث معي هاتفيا من مضايا وأخبرني كيف أنه باع سيارته علي حدود البلدة المحاصرة مقابل 5 كيلو من الأرز كي يطعم عائلته. والآن نفد الطعام ولم يعد يعرف ماذا يفعل وصغاره يغيبون عن الوعي من شدة الجوع. " لم يعد لدينا ما نأكله بعد أوراق الشجر والكلاب القطط..فإلي متي سيقف العالم يشاهدنا ونحن نموت بالبطيء؟ هذه جريمة ضد الإنسانية وجريمة حرب يجب أن يحاسب مرتكبوها والساكتون عنها." وفي بيت آخر داخل مضايا المحاصرة جاء اتصالي في وقت الغداء بينما تستعد أسرة آل شعبان المكونة من 7 أفراد لتناول طبق فيه ماء وملح وقليل من النعناع الناشف. لم اقوَ بعدها علي الكلام وتركت الرجل يتحدث عن الثلوج التي تغطي المنازل والشوارع واصوات الأطفال التي اختفت بعد أن كانوا يصرخون ويبكون من شدة الجوع والبرد. ولم يعد علي لسان الجميع سوي الدعاء "حسبي الله ونعم الوكيل". وفي اتصال آخر حاولت ان اعرف حقيقة الأوضاع وانا علي يقين أن أسئلتي لا محل لها من الإعراب أمام صور مؤلمة وكلمات قاسية من ابرياء يتألمون..ومن داخل الهيئة الطبية في مضايا تحدث معي دكتور محمد الذي رفض ان يعطيني بقية الاسم خوفا علي حياته ومن معه وهو يعمل مع طاقمه الطبي علي مدار اليوم لاستقبال حالات الإعياء الشديد والقتلي فيقول : نستقبل يوميا العشرات من الحالات المرضية نتيجة النقص الشديد في الغذاء والمياه ونقف عاجزين لأننا بعد نفاد اقراص السكرين التي كنا نطفئ بها جوع الاطفال لم نعد نملك اي شئ أمام تعنت قوات النظام وحزب الله الذين أغلقوا البلدة علي اهلها ووضعوا الألغام والقناصة علي الحدود كي لا يخرج منها أحد. وقد جاءت إلينا جثث مضروبة بنيران قناصتهم في اطراف البلدة وشباب وأطفال آخرون بترت اطرافهم بسبب انفجار الألغام بينما كانوا يحاولون جمع اوراق الشجر من اطراف البلدة بعد ان نفدت الاوراق في الداخل. ويشير إلي انه من شدة الجوع والبرد ظهرت علي الناس أمراض جلدية كثيرة بين الأطفال والنساء والشيوخ. ويؤكد ان بعض الأسر في مضايا لجأت لإطعام اولادهم الأدوية مثل شراب ريمدول والمودال لما بها من نسبة سكر كي يبقوهم علي قيد الحياة ولكنها سموم تقتل هي الأخري ببطء حيث انها تؤثر علي وظائف الكلي والكبد. ورغم هذه المعاناة يصف الأطباء كيف انهم يعتريهم بعض الأمل وسط مكان مليء بأشخاص ينتظرون الموت بين لحظة واخري عندما تلد امرأة طفلا جديدا ويسمعون صرخة حياة وسط صرخات وأنين الجوعي. وبعيدا عن ذلك الواقع الإنساني الذي تتشابه فيه الحكايات وظروف الحياة تحت الحصار أظهرت بلدة مضايا مساومات السياسة الرخيصة بين المعارضة السورية من جهة وبين النظام السوري وحزب الله من جهة أخري. فحزب الله يغلق مضايا حتي يترك جيش الفتح (من قوات المعارضة) المناطق الشيعية مثل الفوعة وكفريا التي يفرض عليها هي الاخري حصارا مشابها. وتعاقب مضايا المعارضة للرئيس السوري بالتجويع بعد ان هجرت سكان الزبداني وكثيرا من مناطق الصراع إلي البلدة ومحاصرتهم حتي الموت منذ نحو 168 يوما. ويشير المرصد السوري لحقوق الإنسان إلي أن عدد السكان الحالي لمضايا 40 ألفاً، بينهم 20 ألف نازح من مدينة الزبداني. ورغم الأخبار التي تناقلت بالأمس بأن النظام السوري سمح بإدخال مساعدات انسانية لمضايا مازالت المدينة محاصرة حتي كتابتي لهذه السطور، ومازالت لعبة السياسة القذرة تكشف عن قبح كل الأطراف التي تدعي العروبة والمقاومة والإسلام وهي تتلاعب بحياة الأبرياء وتساوم علي أرواحهم كي تحقق انتصارا سياسيا دمويا زائفا.