نظرة سريعة علي الساحة السياسية المصرية هذه الأيام تكفي لتأكيد ان نظرية المؤامرة أصبحت أحد أهم ملامح المرحلة، وأن الشكوك المتبادلة صارت هي العامل المشترك الذي يحكم تفكير غالبية السياسيين بمختلف توجهاتهم وأيضاً قطاع عريض من الرأي العام والجماهير المصرية.. وربما كان المبرر الوحيد لهذا التفكير غير السوي أن نظرية المؤامرة تقدم التفسير الوحيد للكثير من الأحداث غير المفهومة التي شهدتها مصر منذ سقوط حسني مبارك وهي أحداث أقرب ما تكون بالفعل الي العبث واللامعقول.. ربما كانت البداية هي نقل السلطة من الرئيس المخلوع الي المجلس الأعلي للقوات المسلحة بعيداً عن بنود الدستور.. وتوالت بعد ذلك، مشاهد اللامعقول .. الإنتخابات البرلمانية قبل الدستور .. الإنفلات الأمني غير المفهوم .. الأزمات المتتالية في السلع الإستهلاكية كالبنزين والبوتاجاز .. الحرائق المريبة والمحاكمات الشكلية للفاسدين ..والرعاية الفائقة التي يحظي بها آل مبارك رغم تقديمهم للمحاكمة وعدم إدانة اي مجرم في قضايا قتل الثوار.. المجلس الأعلي للقوات المسلحة يشك في محاولات البعض لإقتناص السلطة بطرق غير مشروعة. وربما كان هذا هو السبب في طول الفترة الإنتقالية التي كان المجلس العسكري خلالها كمن يمسك بالثور الهائج من قرنيه .. فلا هو قادر علي التشبث بهما ولا علي تركهما والإبتعاد عن الخطر. السياسيون والثوار يشكون فيما أكده المجلس الأعلي للقوات المسلحة حول تسليمه السلطة في موعد لا يتجاوز اخر يونيو القادم... التيارات المدنية أيضاً تشك في اصرار الإخوان المسلمين علي احتكار كل مواقع السلطة ووصفت الأحزاب الليبرالية ذلك بأنه محاولة "للتكويش" علي كل شيء.. الإخوان، من جانبهم، يشكون في ان هؤلاء الليبراليين لديهم اجندتهم الخاصة ضد كل ما هو اسلامي ويدبرون المكائد ويحيكون الدسائس لمنعهم من نيل حقوقهم المشروعة باعتبارهم يمثلون غالبية الشعب المصري.. ولم يسلم السلفيون أيضاً من نظرية المؤامرة .. فرغم كل البراهين والأدلة الموثقة التي أكدت ان والدة المرشح السلفي السابق الشيخ حازم صلاح ابو اسماعيل تحمل الجنسية الأمريكية، إلا ان انصاره لازالوا يؤكدون انه ضحية لمؤامرة تستهدف ابعاده عن سباق الرئاسة.. ولم يشهد سباق الرئاسة اي تحالف بين المرشحين ورفض كل منهم التنازل لمرشح آخر حتي ولو كان من نفس تياره وهو دليل أكيد علي عدم الثقة والشك المتبادل بينهم. الغريب ان الشكوك امتدت لتشمل علاقات مصر الخارجية، فأمريكا تلعب ضد الثوار من وراء ستار وتستغل ورقة منظمات المجتمع المدني والتمويل الأجنبي .. وحكومات أوروبا تتربص بالثوار وتبحث فقط عن مصالحها. وحتي بعض الدول العربية أصبحت متهمة بدعم حسني مبارك ضد الشعب المصري والتآمر علي الثورة ومساندة الفلول حتي يعود أو يستمر نظام مبارك. والسؤال الآن .. متي تخرج مصر من مستنقع الشكوك الذي وقع فيه الجميع؟ متي تستعيد القوي المصرية المختلفة مناخ التعاون والثقة المتبادلة ؟ الإجابة ببساطة ان كل الوساوس القهرية والشكوك المرضية يمكن أن تنتهي عندما تتحقق أهداف الثورة ويتأكد كل مصري انه كان مخطئاً أو مبالغاً في مخاوفه. أما إذا نجح أعداء الثورة في إجهاضها أو سرقتها فسوف تتحول هذه الشكوك والوساوس الي نوع من الحكمة والقدرة علي التنبؤ بالمستقبل المظلم وهو ما لا نتمناه أبداً لمصر وثورتها العظيمة ..