بينما يلتمس السمسار فلوسك، يلتمس الخبير صداقتك، ويكفيه شعورا بالزهو أنك تلجأ إليه. بدأ سماسرة الانتخاب موسمهم مبكرين، فالدوائر لم تعرف وموعد الانتخاب لم يحدد ومع ذلك أخذوا ينتشرون في المدن والقري ويطرقون أبواب المرشحين القدامي والجدد، والمصيبة التي تحل بهم وتقطع أرزاقهم ألا يتقدم في الدائرة غير مرشح واحد، ولذلك فهم يبذلون غاية جهدهم لإغراء أكبر عدد ممكن علي الدخول في الانتخاب، ويجعلون همهم هؤلاء الأغنياء الذين يتوقون للوجاهة، وتستبد بهم الرغبة في أن يكونوا نوابا يفتح لهم باب الوزير والمدير. ومن حسن حظ السماسرة الأذكياء أن اشتدت الحرب بين أفراد هذه الطبقة، لذلك يتوقعون أن يكون موسمهم المقبل أربح المواسم، ومن هنا كان نشاطهم الملحوظ وسعيهم السابق للأوان. وأنت تستطيع أن تعرفهم من سيماهم، وجه كالزئبق، ولسان لا يكف عن الكلام، تواضع جم، عين نصف مغمضة، ويد فوق يد، يقف في حضرتك، إذا كنت مرشحا أو من المحتمل أن تكون، كأنه يقف بين يدي الله، إذا تحركت شفتك تبسم وكادت كل سريرة في وجهه تنطق بأنك أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء وأن ما تقوله تنزيل لا يأتيه الباطل من أمام ولا من خلف. ولابد أن يوهمك بأنه يعرف أكبر مجموعة من الناس، فهو إذ يجلس معك، تكاد لا تكف يده عن السلام والتحية والنهوض والجلوس، يحيي من يعرفهم ومن لا يعرفهم ويوسع في مقعده لكل الناس، صغارهم وكبارهم علي السواء. وما أكثر همساته، قلما يكلمك علانية، كل ما عنده أسرار، وكل تعليماته تحذيرات، وكل ما ينطق به دعوات وحوقلات وبسملات، وهو ذكي من غير شك، بل انه علي الأرجح أذكي من أكثر المرشحين، إذا سألته في مسألة تتعلق بالدائرة، سألته عن فلان مثلا هل هو صاحب نفوذ في قريته أم لا، زم شفتيه وزاد عينيه إغماضا ودفع عمامته إلي الوراء وأراح كفه علي جبهته المتصببة عرقا وانطلق يفكر كأنه يستوحي ويسأل شياطينه جواب ما سألت.
ولعلك لا تعرف أن للانتخابات خبراء، والخبراء غير السماسرة، وقد وصفت لك سمسار الانتخابات، وبقي أن تعرف الخبير. وهو علي الأغلب رجل فرغ منها، أعني من الانتخابات، مارسها زمنا، فشل فيها أو نجح، ثم سئمها فآثر أن يعتزلها، وهو يعتزلها في الظاهر فقط. وهو علي النقيض من السمسار، فبينما يلتمس السمسار فلوسك، يلتمس الخبير صداقتك، ويكفيه شعورا بالزهو أنك تلجأ إليه أو أنه يسعي إليك ووراءه سجل حافل من المعارك الانتخابية، الهادئ منها والصاخب. وأنت جديد علي هذه المعارك، فأنت مأخوذ حتما بحكاياته المؤثرة عن العمد ومأموري المراكز وأعيان البلاد وحيل الناخبين وكيد الحكومات والأحزاب، ولابد أن يوجه إليك أسئلة تحيرك ولكن لابد لك من الإجابة عنها، وأولها: أتنوي أن تنضم إلي حزب من الأحزاب؟ فإذا أجبته سلبا هز دماغه في إشفاق وزم حاجبيه وقال: أنت محتاج إلي مجهود كبير، كم تريد أن تنفق! وقد تكون إنسانا مثاليا تحسب التقدم للانتخابات تضحية وتكليفا فتعجب لسؤاله، ولكنه يتبسم من جهالتك، ويأخذ ورقة وقلما ويجري عملية حسابية ثم يقول لك: حتي إذا أنفقت مليونين من الجنيهات فأنت الرابح. وتحار في الأمر ولكنه يوضحه لك فمدة البرلمان 5 سنوات أعني 60 شهرا وإذا حسبت المكافأة تكون كفتك هي الرابحة، ويطمئن إلي أنك فهمت ما يقصد ويستطرد في شرح ما يريد، وينصحك بأن تنضم إلي حزب من الأحزاب، فإذا بدا كأنك تعترض علي مثل هذا العمل غير اللائق من الوجهة الأخلاقية، نهرك في شبه ولاية له عليك، وسألك: أتريد أن تكون عضوا في البرلمان أم نصيرا للأخلاق؟ ويلمح حيرتك، ويؤثر أن ينقذك منها فيقول: السياسة لا قلب لها، اخلع مثلك وخلقك قبل أن تدخل المعركة. وينصرف الخبير عنك وتخلو إلي نفسك: إذن هي مسألة حسابية، مكسب وخسارة، أخلاق أو لا أخلاق، ويخطف بصرك البريق وتضيع مثلك في الضباب، وإذا بك تذهب أنت هذه المرة إلي الخبير بقدميك واختيارك، يا له من خبير!