يتحفني موقع تراث مصري علي شبكة الانترنت دائما بكل ما هو ثري ومثير وغريب في الواقع الاجتماعي والسياسي المصري الذي لم أعشه لأنني لم اكن قد ولدت بعد، آخر ما وصلني علي صفحتي بالفيس بوك من تلك التحف النادرة، صورة زنكوغرافية لبطاقة دعائية، أو كارت تعريف بعيادة الدكتور احمد طاهر بك طبيب مستشفيات السجون المصرية. البطاقة تشير أنه خريج جامعات فرنسا وسويسرا وألمانيا، واختصاصي الامراض الباطنية والاطفال بشارع عبد العزيز، وقتها كان تليفون وسط القاهرة اربعة ارقام فكان تليفون العيادة 4906 ، يحمل الكارت مواعيد العيادة من الساعة الرابعة حتي الخامسة للفقراء، ومن الساعة الخامسة حتي السابعة لغير الفقراء ،تلك الساعات تعطينا دلالات كثيرة عن حال الطب والاطباء في مصر في تلك الفترة التي تكاد تتطابق مع حال الطب والاطباء في الدول المتقدمة الان، فالدكتور احمد طاهر بك طبيب السجون المصرية بالتأكيد كان له قيمته الطبية في تلك الفترة بدليل حصوله علي رتبة البكاوية، وتوليه منصب طبيب السجون المصرية، ومع ذلك فالرجل حدد للفقراء من بني جلدته ساعتين للعلاج المجاني يبدأها قبل علاج القادرين علي دفع تذكرة الكشف التي ربما كان ثمنها قروشا قليلة، تلك هي الرحمة والتكافل والانسانية التي حضت عليها كل الاديان والاخلاق الانسانية التي كان يتعامل بها اطباء هذا الزمن، سواء كانوا من المصريين الذين تلقوا علومهم من طب قصر العيني أو من الخارج، وسواء كانوا من المصريين أو المتمصرين أو الاجانب الذين كانوا يقيمون في مصر ويعملون بها. بالطبع انا لا أعمم، ولا ادعي ان كل الاطباء في مصر في تلك الفترة كانوا علي شاكلة الدكتور احمد طاهر بك، لكن ما رواه التاريخ عن طبيبنا الشاعر الراحل الكبير ابراهيم ناجي صاحب قصيدة الاطلال التي لحنها رياض السنباطي وغنتها سيدة الغناء العربي ام كلثوم، كان معروفا عنه فتح عيادته بالمجان امام الفقراء الذين لا يملكون قوت يومهم، وكان ثمن الكشف بعيادته لا يتجاوز المبلغ الزهيد الذي يتناسب مع قيمته وقامته الطبية مقارنة بمن هم اقل منه في المكانة والقيمة الطبية والعلمية والشهرة الاجتماعية، وكان الدكتور ابراهيم ناجي في احيان كثيرة يرد للمريض ثمن الكشف ويعطيه فوقه ثمن الدواء الذي كتبه في الروشتة عندما يستشعر بحسه الانساني عدم قدرة هذا المريض علي الاتيان بالدواء. امثال د. احمد طاهر بك طبيب السجون المصرية ود. الشاعر الشهير ابراهيم ناجي كثر ولهم امتداد يتمثل في طبيبنا المصري العالمي الانسان السير مجدي يعقوب الذي تفخر به بريطانيا والعالم أكثر مما يفخر به بعض ابناء جلدته من الجهال والمتعصبين الذين يحاربون مركزه الطبي لجراحات القلب الذي اسسه من اجل مصر والمصريين بالمجان، ورغم تلك الحرب الخسيسة لم يتوقف عن تقديم علمه وطبه ومحبته بلا مقابل، وبالطبع يجب ألا نغفل الدكتور محمد غنيم رائد زراعة الكلي في العالم الذي اسس لمصر والمصريين اهم واكبر واشهر مركز زراعة الكلي والمسالك البولية بجامعة المنصورة، ولا اغفل مجموعة الاطباء الذين رصدوا كل جهدهم لتأسيس مستشفي علاج السرطان بالمجان للأطفال ومازالوا يستحثون الناس للتبرع لاستكمال وتوسعة المستشفي. في كندا هناك ساعات محددة لعمل عيادات الاطباء لا يمكن لأحد تجاوزها، تماما مثل الساعات الاربع المحددة في كارت عيادة د. احمد طاهر بك طبيب السجون المصرية، ولا يحق للجراح اجراء اكثر من جراحة في اليوم للتركيز، اليوم تعمل عيادات الاطباء حتي الفجر، والمرضي يقفون علي السلم خارج العيادة، فيزيتة بعض الاطباء قفزت إلي 500 جنيه وأكثر،الاستشارة لم تعد حقا غير مدفوع انما اصبحت بنصف ثمن الكشف، انعدمت الرحمة والانسانية وتحول الطب إلي استثمار وتجارة بشعة نتيجة غياب ما تقدمه الدولة من خدمة في مستشفياتها ،الطب الآن بعافية، والدواء فاق حد الجنون، وللحديث بقية !