إن رد فعل واشنطن المسيس علي التمديد المقيد لقانون الطوارئ.. بهدف خلخلة التوازن وتصعيد القلق وعدم الاستقرار السياسي في مصر, إن دل علي شيء, إنما يدل علي النزعة الاستعلائية الفوقية والتي لا تعبأ بضيق الأنظمة ولا بغضب الشعوب. ومما يزيد هذا الغضب اشتعالا., ان تأتي ردة الفعل هذه من أناس لا تاريخ لهم اصلا, بل ان سحق العدالة, كانت فكرة تجسيد امريكا التي لم يتجاوز عمرها ثلاثة قرون من الزمن, ولم يدر بخلدهم أن العدالة التي هي فكرة تجسيد مصر ومن معطياتها للبشرية, قد سبقت وجود الامريكيين كشعب.. بأكثر من خمسة آلاف عام وهذا بدوره جدير بأن يفسر لنا لم يكره المصريون التدخل الأجنبي؟ فكلما صعدنا في نهر الزمن ورجعنا فيه إلي الماضي, كلما اتضحت لنا جذور أعتقاد المصريين الراسخ بأن ارضهم هي موطن الآلهة ومركز الكون وأصل الخليقة, وبأن المصريين اختارهم الإله ليكونوا شعبه المختار, وتؤكد الوثائق التاريخية صحة وجهة النظر هذه ومن ذلك نشيد من نصوص الأهرامات يعود للأسرة السادسة(2345 2181 ق. م) يخاطب الشاعر خالق العالم( توم) والإله حامي الملكية( حورس) وهي تتغني بجمال مصر وخصبها وامنها القومي. سلام عليك يا توم سلام عليك يا خليفته( حورس) الذي زينك بيديه مجتمعتين لم يأذن ان تطيع الغربيين, ولم يأذن ان تطيع الشرقيين, ولم يأذن ان تطيع الجنوبيين, ولم يأذن ان تطيع الشماليين, ولم يأذن ان تطيع اهل وسط الأرض, ولكنك تطيع حورس فهو الذي زينك, وهو الذي شيدك وهو الذي اسسك تقف أبواب مصر لك ثابتة, ولن تفتح ابدا للغربيين او الشرقيين او الجنوبيين او الشماليين او لأهل وسط الأرض, ولكنها ستفتح لحورس, هوالذي يدفع عنها كل أذي يمكن أن ينزله إله الشر( ست) بها, وتفصح لنا هذه الأقوال وغيرها, عن حقيقة لا تماري, وهي أن الأمن القومي, قد غدا قبل الأسرة السادسة من صميم العقيدة الدينية, وسننا تحتذي وتنتقل من السلف إلي الخلف, ويبدو ذلك واضحا في الكلمات التي سجلها تحتمس الثالث علي جدران معبد الكرنك علي أنه تلقاها من إله الملوك الذين طردوا الهكسوس أمون رع العظيم: إني امنحك القوة والنصر علي كل البلاد, وأني امهد لك المجد, وابث الخوف منك في كل البلاد المنبسطة, سأجعل الرعب منك يمتد إلي أعمدة السماء الأربعة, اني أجعل احترامك عظيما في كل الأجسام, واجعل نداءك الحربي يتردد بين جميع الشعوب, ان عظماء البلاد الأجنبية في قبضتك واني أمد يدي بنفسي واصيدهم لك, واربط الأسري من البدو بعشرات الألوف ومن أهل الشمال بعشرات الألوف, واني اجعل اعداءك يسقطون تحت نعليك, اني امنحك الأرض طولا وعرضا. فأهالي المغرب والمشرق تحت سلطتك. ولكي تكتمل الصورة التي رسمناها, لابد لنا من الاعتراف بأن الامبراطوريات العظيمة, لا تأتي نهاياتها الا من الداخل وعلي ايدي ابنائها, ففي العصور التي اعتصمت فيها مصر بوحدتها, واستمسكت بنظامها ازدهرت قوتها, وامتد نفوذها وسلطانها, وفي العصور التي انفرط فيها عقد وحدتها الوطنية وتصدع نظامها, طمع فيها الطامعون, وهذا ما آلت اليه امور مصر اثر فشل حركة اخناتون الإصلاحية, ويشير إليها بوضوح ذلك الحادث غير المألوف الذي واكب وفاة توت عنخ أمون1327 ق.م وهو خطاب اسلته إلي ملك الحثيين( شوبيلوليوما) ارملة الملك المتوفي عنخ آسن آمون شرحت له فيه انه ليس لديها ولد ورجته ان يرسل احد أولاده ليقترن بها ويتولي العرش. ولما تأكد ملك الحيثيين من صدق الملكة, ارسل بالفعل احد ابنائه, لكن لم يدر بخلد ملكة مصر وملك الحيثيين إطلاقا, انه بفعلتها هذه قد, ثارت ثائرة المصريين باعتبارهم لها بمثابة مذلة منقطعة النظير, ذلك أنه لم يحدث في ذلك العصر, او العصور السابقة, ان تزوجت اميرة مصرية بملك او أمير اجنبي, وقد حاول اكثر من ملك اسيوي ان يخطب لنفسه او احد ابنائه احدي اميرات البيت الملكي المصري, وكان الرد دائما يأتي مشفوعا بالرفض المطلق, وهكذا كان من الطبيعي بل من المحقق, ان يكون الثمن فادحا, فلم يكد يصل الأمير الحيثي علي مقربة من الحدود المصرية, حتي داهمته مجموعة من المخابرات العامة واردته قتيلا, والذي نستطيع ان ندركه في هذه المسألة بالذات, انه رغم الضعف الذي دب في جسد كانت ثمة قوي واعية داخل الدولة, لاتزال مصممة علي أن تنقذ البلاد من الهوة التي تردت فيها, ولو استعرنا العبارات التي استعملوها في تلك الآونة لقلنا, انهم قضوا علي هذه الخيانة العظمي, وقد نجم عن ذلك نشوب حرب بين الطرفين, كما تخبرنا الوثائق الحيثية, اما عنخ آسن آمون فربما انتهي بها المطاف بأن اصبحت ضمن الحريم, بعد أن جردت من لقب الملكة, او حتي من لقب الملكة السابقة. والذي يهمنا في الأمر, انه بهذا التدبير, عادت لمصر وحدتها الوطنية علي يد حور محبالذي عين قائدا عاما للجيوش المصرية, وبقي محتفظا بوظيفته هذه طوال عهود اخناتون وتوت عنخ آمون وآي واضطر اخر الأمر إلي أن يسارع إلي طيبة ويرتقي عرش مصر, بعد أن تزوج من احدي اميرات البيت المالك القديم, واستطاع بجرأته وشدة مراسه, ان يعيد إلي مصر ثقتها بنفسها, ويقضي تماما علي كل عوامل الفتنة, ومات سنة1295 ق. م تاركا وراءه عرشا قويا وبلادا مستتبة الأمن والاستقرار, لانها اتخذت من العدالة عنوان شهرتها فقد واكبت حضارة مصر, قبل ان يبزغ فجر التاريخ, فكانت دائما المنار الذي اضاء تلك العصور وما برح العالم منذ فجر التاريخ يسبح في خضم هذه العدالة, والتفسير الأكثر معقولية, ان من خصائص المصريين المميزة قديما وحديثا سعيهم الدائب لتتفق افعالهم مع الوازع الخلقي, جريا علي اساس قاعدة ما يحبه الناس ويرض عنه الرب وهكذا لعبت العوامل الاجتماعية دورا مهما في حفظ الأمن وتأتي في مقدمتها فكرة الماعت اي العدالة, وهي القانون الذي سنه الإله( رع) ومن ثم كانت لمبادئها أهمية قصوي فالآلهة والبشرولاسيما الملك يعيشون علي مبادئها, وقد ظلت طوال التاريخ المصري وازعا خلقيا قويا, يدفع الناس إلي الفضيلة والعدالة والحق, وشتان بين ذلك وبين الفضيلة والعدالة والحق لدي الامريكيين والاسرائليين فهي في المفهوم الانجلوساكسوني الصيوني, تعني سنسقط اي نظام في اي مكان, إذا لم يتماشي مع سياستنا, او يحقق مصالحنا, حتي ولو كان ديمقراطيا. ولم أكن لأجد الجرأة علي الإدلاء بهذا التفسير, لو لم يكن واحد من أشهر فلاسفة العصر الحديث( برناردشو) قد اختزل هذه القضية بمقولته الشهيرة: إنني كاتب ساخر, ولكن لم تبلغ بي السخرية حدا يجعلني اذهب إلي الولاياتالمتحدة, وأشاهد تمثال الحرية علي بابها.