منذ سنوات طويلة, بالمتحف البحري القومي بالإسكندرية, تحدث السير أنتوني بارسونز عن كتابه الشهير( إيران بين الكبرياء والسقوط). المحاضرة لم تكن لها صلة بالبحر أو الآثار الغارقة. بل كانت عن الثورة الإيرانية وتأثيراتها الإقليمية والدولية, فالمحاضر دبلوماسي مخضرم, وثيق الصلة بمنطقة الشرق الأوسط, خدم في مطلع حياته ملحقا عسكريا في السفارة البريطانية في بغداد, كما خدم في سفارات دولته في أنقرة وعمان والقاهرة والخرطوم والمنامة, وكان السفير البريطاني لدي إيران وقت قيام ثورة الخميني, وتحول بعدها إلي العالم الأكاديمي حيث صار باحثا بجامعة أكستر البريطانية, فأثري الأدبيات السياسية. رغم السنين البعيدة, أذكر واقعة سردها حين استعرت الثورة في شوارع طهران, أن اتصل به شاه إيران في الصباح الباكر قائلا, سيادة السفير هل تستطيعون عمل شيء للسيطرة علي هؤلاء الملالي؟ وقال السفير تعجبت يومها كثيرا, فبالقطع لم تكن لنا سيطرة علي الثوار أو الأحداث. واستطرد السفير مخاطبا الحضور, أنتم تتصورونا بالقوة التي لا نملكها, وكأننا نخطط ونتحكم في كل ما يجري عندكم, وبالرغم من أن ذلك يرضي غرورنا, إلا أنه بعيد عن الحقيقة, فنحن( كسياسيين) أضعف وأخيب مما تظنون, في أوقات كثيرة لا نعرف كيف تسير الأمور, ونتعامل أحيانا مع الأحداث برد الفعل العشوائي, بل الكارثي( واستشهد بواقعة الرهائن الأمريكيين في إيران), وأضاف لكنكم تعيشون في وهم أن الغرب يدبر المؤامرات ولكم وهذا المأزق العقلي عن المؤامرة من صنع خيالاتكم. والمثير أنه عبر عن هذا المعني في كتاب سابق يجسد عنوانه محتواه( يسمونها الأسد: أسطورة بريطانيا عند العرب ذكريات شخصية). المتحف الواقع في حي ستانلي ربما لم يعد صالحا كمتحف وتحول الآن إلي مخزن للآثار الغارقة, ولكن الأفكار التي قيلت فيه يومها مازالت صالحة, ويحضرني قول السفير عن الثورة الإيرانية لقد ثبت خطأ الاعتقاد بأنه في الشرق الأوسط تستطيع الدول التي لديها قوات عسكرية قوية وجهاز أمني قمعي السيطرة علي شعوبها إلي ما لا نهاية. الدرس الكبير الذي تعلمناه أنه ليس بمقدور الرئيس الذي لديه جهاز أمني باطش الصمود أمام عاصفة شعبية عاتية. أتعجب مما يثيره بعض المثقفين من أن ثورة يناير2011 م التي قامت في مصر مؤامرة أجنبية خالصة!! بل يمتد التصور الغريب ليطول الثورات العربية السابقة واللاحقة لها, وهناك مثقف مرموق أدان الثورة من خلال أسئلة مريبة وكأننا أسري نظرية دونية بأننا دائما في وضع المستكين المفعول به, الذي لا يملك من أمره شيئا. هذه شهادتي للأحداث والتاريخ, نعم لقد قامت في مصر ثورة عظيمة, نتاجا طبيعيا لممارسات نظام حاكم جشع بشع فاسد, يريد أن يسرق زمن الشباب ومقدراته, ويغتصب من الأجيال التالية حلمها ورزقها ومستقبلها رغم أنه شاخ وهرم, وسمعت لأول مرة في سنين حياتي المتعاقبة الكلمة مدوية هادرة الشعب( يريد), الكلمة غريبة علي سمع الحكام والمحكومين, جديدة في قاموس السياسة المصرية( بل العربية), فمنذ متي كانت للشعب إرادة؟, وكيف يجهر بما يريد؟! انكسرت الهجمة الأمنية الشرسة بعتادها وعدتها أمام تضافر الشعب وصموده, الشباب والشيوخ, الرجال والنساء, البسطاء والوجهاء, المثقفون والعامة, المسلمون والمسيحيون, فاكتسح الطوفان طبقة الحكام. ولكن عفوا, فهناك فعلا مؤامرة كبري ضربتنا ونالت من ثورتنا, أتتنا من الداخل وليس الخارج, فهناك من سعي لإجهاض حلم الشباب, وأيقن أن مكمن قوة الشعب المحتشدة أفراده وطوائفه لن يمكن قهرها بقوة السلاح, فلجأ إلي الحيلة, وخطط لتفكيك الاحتشاد, فهذا فصيل لوحوا له بالبرلمان فترك الميدان, وتحول من بعد تضافره مع الثورة ليطمس هتافاتها المناوئة للممارسات العسكرية الخشنة بإذاعة آيات القرآن الكريم بأعلي مكبرات الصوت في الميدان, ونادي بأن الشرعية انتقلت إلي البرلمان, وهؤلاء شباب من الثوار تم استقطابهم أو شراؤهم والباقي سهل ضربهم وسحلهم أو كشف عذريتهم!! ونجحت المؤامرة بامتياز يوم تفرقت الحشود بين ميادين ثلاث: التحرير وبقايا ثوار يبحثون عن حق الشهداء, والعباسية وصور قادة المجلس العسكري مقرونة بهتاف بطول عمرهم وبقائهم, والأزهر ونداءات الزحف علي القدس!! المؤامرة استهدفت في طورها الثاني العقل والضمير المصري ليفرق بين جموع المصريين والفصيل الذي وصل للحكم, وتحقق ذلك بفضل إعلام مكذوب, واقتصاد مهزوز, وعدل منقوص, وأمن مفقود, وجاءت قمة النجاح للمؤامرة من بؤرة الداخل في صورة أداء متخبط متردد مترد, وعجز فاضح عن لم الشمل أو استعادة الثقة, فاهتزت هيبة الدولة, هذا يختطف جندها, وذاك يحول نيلها, وآخر يربكها بقضايا حق العسكريين في الانتخاب وماذا بعد؟ رهاني علي أن الشباب لن يستكين, ويقيني أنه لن يكتفي بالنداء بأنه يريد, بل سينتقل من فعل الإرادة إلي فعل التنفيذ!! سيستعيد اشراقة الحياة ونور المستقبل, هذه نبوءتي للذين يتصورون أن الثورة قد ضاعت وتمكن منها أعداؤها, ويظنون أنني مازلت أعيش وهم الثورة.