يحاول العديد من مسئولي الأحزاب علي مختلف اتجاهاتهم أن ينأوا بأنفسهم عن قضية التعريب رغم أهميتها في إعادة ترتيب أولويات التنمية في البيت المصري سياسيا وثقافيا وتنمويا وذلك مشاركة في مسيرة بدأت بالاعتراضات المتواصلة علي التعليم بالعربية, بدعوي عدم كفاءتها في التعليم الطبي خصوصا. كانت البداية مع مدرسة طب قصر العيني التي تشكك البعض في مستوي التعليم فيها فجيء بأحد أساتذة الطب الفرنسيين عام1830 م, للإشراف علي امتحانات الطلاب, والذي كان تقريره عنها مشجعا, وقرر بأن مستوياتهم التعليمية لا تقل عن المستويات الجيدة المقبولة في فرنسا. وبالرغم من ذلك, استمرت حملة الاعتراضات. وعند تخرج الدفعة الأولي من المدرسة, اتهم كلوت بك بأنه تساهل مع طلبة تلك الدفعة في إنجاحهم, مما اضطره, بعد موافقة محمد علي باشا, إلي اصطحاب12 خريجا من مدرسته في نوفمبر1832 م إلي باريس, حيث امتحنتهم هيئة علمية, من أشهر أساتذة الطب آنذاك. وبعد انتهاء الامتحان, امتدحوا الطلاب, وأشادوا بمستوي معلوماتهم, وهنأوا الدكتور كلوت بك وأساتذة المدرسة علي انجازهم الرائع وفي عام1849 استدعي إبراهيم باشا أحد أساتذة كلية طب مونبيليه, إلي مصر لتقييم مستوي طلاب مدرسة الطب, فامتدح في تقريره مستوي طلابها وأساتذتها. تلك الكلية التي كانت تدرس بالعربية اكتشف فيها طفيلي البلهارسيا وطفيلي الانكلستوما, وداء الفيل, ونشرت بالاضافة إلي ذلك العديد من البحوث والنشرات العلمية والطبية. واستمر التعليم في مدرسة الطب في القاهرة بالعربية, بكل كفاءة واقتدار. واكتملت كل الكتب العلمية الضرورية للتعليم باللغة العربية, إلي أن احتل الإنجليز مصر عام1882 م, وفرضوا تحويل لغة التعليم إلي الانجليزية عام1887 م, بحجة عدم توافر المراجع الكافية! تلك كانت البداية ثارت بعدها ثائرة بعض الوطنيين في البرلمان المصري بعد ذلك بعدة سنوات فتم إرجاع العربية إلي التعليم العام رغم اعتراض بعض الوطنيين( أو بالتحديد مدعي الوطنية) وتأجل تعريب التعليم العالي لبضع سنوات فكانت النتيجة التسويف والتأجيل حتي اليوم بل وعودة تغريب التعليم إلي التعليم قبل الجامعي في استجابة طوعية( غير وطنية) لمطالب المحتل الانجليزي! يمكن للمتتبع للحالة اللغوية في منطقتنا العربية أن يري بوضوح حالة التشرذم التي يمكنها أن تصف حالة التنمية في وطننا العربي. فما بين عامية ركيكة وفرنسية وانجليزية يقف العربي غريبا في وطنه رغم وضوح القوانين والدساتير في كل دولنا والتي تنص علي أن العربية هي لغتنا. وما بين ازدواجية لغوية في الأعمال الرسمية وعربية ركيكة ينادي بها البعض تصب مجهودات التنمية بصورة مشوشة في هذا المستنقع الذي لا ينتج تنمية. هذه التنمية هي حق بموجب مختلف المواثيق الدولية ومنها إعلان الحق في التنمية الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة. ورغم أن البعض يجادل في علاقة التنمية بالسلامة اللغوية فإن هذا المثار لا نجده إلا في البلدان المتخلفة والتي لا تنال حظها من التنمية. تلك كانت أجواء المؤتمر السنوي السابع عشر لتعريب العلوم الذي عقد هذا العام بجامعة أسيوط تنفيذا لتوصيات مؤتمرات الجمعية المصرية لتعريب العلوم بالخروج بمناشطها إلي مختلف محافظات الجمهورية وتدعيما لقفزة موجبة خطاها الدستور حيث نص علي أن تعمل الدولة علي تعريب التعليم. في هذا الإطار ينبغي أن نشير إلي أن تعريب لغة تدريس العلوم في بلاد الوطن العربي عنصر جوهري في منظومة تنميتها البشرية والقومية, وخطوة أساسية في تأصيل العلم والاسلوب العلمي في التفكير والسلوك, وتنمية ملكة الابتكار والإبداع, حيث ترتبط لغة تدريس العلوم بقضية توطين التقنيات ومنها التعليم والتدريب بالعربية ونشر العلم والثقافة باللغة العربية الصحيحة, تفعيلا للمادة الثانية عشرة من الدستور ولقانون تنطيم الجامعات ولقانون تنظيم الأزهر ولقانون التعليم ولقانون وجوب استعمال اللغة العربية في المكاتبات واللافتات ولقانون حماية المستهلك لضمان انضباط الشارع والتزامه باللغة العربية دون سواها. تلك كلها عناصر أساسية في منظومة التنمية يغفل البعض عنها ويتغافل آخرون عن تفعيلها! ألا يجب الالتزام بنصوص الدستور والقانون والتي تنص صراحة علي أن لغة التعليم هي اللغة العربية؟ إن الحفاظ علي الهوية والثقافة واللغة القومية يتطلب أن يكون التعليم قبل الجامعي والجامعي بالعربية فقط مع حظر التعليم بغير العربية تماما. أما تعلم اللغات الأجنبية كلغات فأمر ضروري علي أن يكون في الحلقة الثانية من التعليم الأساسي( الإعدادية), مع التأكيد علي ضرورة اتخاذ الاجراءات اللازمة لحصار التعليم بغير العربية متمثلا في المدارس الأجنبية والمدارس التجريبية والمدارس الخاصة لغات والجامعات الأجنبية والخاصة حتي لا يتجزأ المجتمع إلي أطياف ويتفسخ نسيجه القومي. تلكم إحدي أساسيات التنمية التي لا فكاك من اتخاذها بيد قوية حازمة غير مترددة. لقد مثل موقف البعض من قضية تعريب التعليم انبطاحا سياسيا من غالبية أطياف الشارع السياسي رغم وضوح الهدف ولكن الغالبية تحاول أن تنأي بنفسها عن موقف النفاق الذي عاشته وتعيشه بإدخال أبنائها تلك المدارس والجامعات التي لا تصب في صالح الوطن فبدا لها أن تخرج من هذا الموقف بمحاولة تسويف تضر أكثر مما تفيد وتعيد إلي الذهن قرارات مؤتمرات منظمات جامعة الدول العربية الخاصة بالتعريب التي تنادي بوضع خطة طويلة ومتوسطة وقصيرة الأجل للتعريب في محاولة للخروج الآمن من الموقف مع انه في الحقيقة نسف لقضية لا تصب إلا في مصلحة الوطن! لم يلتفت إلا قلة إلي أن قضية التنمية الحقيقية تحتاج إلي هزة مجتمعية في الاتجاه الصحيح لم يقم بها أي فارس حتي الآن رغم ادعاء الفروسية من العديدين قضية التعريب يمكنها أن تكون الجواد الرابح في سباق التنمية التي تبحث عن مضمون وعن رؤية وعن مشروع لم يظهر للنور وتضيع ملامحه والأمل فيه مع الأيام!