في افتتاح مؤتمر مراجعة المعاهدة النووية في نيويورك الأسبوع الماضي, تقدم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قائمة المتحدثين من الدول المشاركة بحكم أنه أرفع مسئول مشارك بين ال189 دولة الموقعة علي المعاهدة وبدلا من أن يبدأ كلمته بالتمهيد التقليدي المعتاد اقتنص نجاد الفرصة ليهاجم بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة الذي دعا في كلمته الافتتاحية إيران إلي التعاون والكشف عن قدراتها النووية والسماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بأداء عملها في الأراضي الإيرانية.. وتلفت نجاد في القاعة فلم يجد الأمين العام للامم المتحدة الذي خرج قبل كلمة نجاد وهو ما فسره البعض بأنه احتجاج واضح من بان كي مون علي السياسات الإيرانية وانحياز من أرفع مسئول دولي لمنطق الدول الغربية النووية الكبري وهي أمريكا وبريطانيا وفرنسا في ضرورة التضييق علي النظام الإيراني من أجل الموافقة علي الكشف عن قدرات بلاده النووية في أسرع وقت ممكن وتجنب جولة رابعة من العقوبات الدولية وربما ما هو أبعد من ذلك وحتي البيان الذي أصدره بان كي مون عن مقابلته لنجاد تضمن عبارة' بناء علي طلب الرئيس الإيراني'!! ويبدو أن خروج بان كي مون الذي تعلل بارتباطه بمواعيد محددة سلفا قد حمل الدبلوماسية الإيرانية إلي مراجعة الموقف من زاوية أن موقف مسئولي الأممالمتحدة هو واحد من مؤشرات الصعود والهبوط في العلاقات الدولية خاصة في مجلس الأمن الدولي- الذي يعقد الخمس الكبار فيه اجتماعات دورية من اجل وضع صيغة عقابية جديدة ضد إيران وبالفعل, بدت علامات التهدئة واضحة في الحوارات التليفزيونية التي أجراها الرئيس الإيراني مع وسائل الإعلام الأمريكية والدولية في فترة وجوده في نيويورك وعندما سأله المذيع الشهير تشارلي روز عن توقعاته عن فرص مهاجمة إسرائيل لبلاده خشية تطويرها للأسلحة النووية أفلت نجاد من الرد علي واحد من أشهر مذيعي التليفزيون الأمريكي مكتفيا بالقول انه جاء من أجل الدعوة للسلام وليس الترويج للحرب ثم تعددت اللقاءات التليفزيونية والوساطات غير المباشرة في ظل تأكيد أمريكي علي لسان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ومساعديها أن ما يفعله أحمدي نجاد هو مجرد مراوغات للإفلات من العقوبات التي باتت وشيكة. وحسب مصادر مطلعة في الأممالمتحدة فإن العقوبات باتت محصورة في التضييق علي قطاعات بعينها في الدولة الإيرانية في مقدمتها أنشطة الحرس الثوري الإيراني دون المساس بالقطاعات النفطية التي تمس مصالح دولية مهمة خاصة المصالح الصينية التي لا تستطيع دول الخليج تعويضها عن النفط الإيراني بسهولة فضلا عن الوضع الاقتصادي العالمي المضطرب بالفعل. .................. .................. ويوم الخميس الماضي, دعت حركة عدم الانحياز( التي تضم118 دولة) أعضاءها لاجتماع مغلق علي هامش مؤتمر المراجعة في مقر الأممالمتحدة ترأسه السفير ماجد عبد الفتاح مندوب مصر الدائم لدي الأممالمتحدة. وأكدت مصادر الحركة أن الاجتماع عقد بناء علي طلب من وزير الخارجية الإيراني مانوشهر متكي الذي أراد توضيح موقف بلاده في الأزمة النووية المتصاعدة مع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن. وقالت المصادر ان الاجتماع- الذي حمل صفة غير رسمية- قد استمر ساعتين ونصف الساعة وتحدث خلاله الوزير الإيراني لمدة طويلة شارحا باستفاضة السياسة الإيرانية مبديا رغبة حكومة طهران في التوصل إلي حل للأزمة الحالية وتجنب عقوبات دولية جديدة موجها الشكر لمصر علي جهودها في رئاسة الحركة واصرارها علي مواجهة الانتشار النووي ونزعها فتيل المشكلات في تشكيل رئاسة اللجان واللجان الفرعية. وقد أكدت مصر في كل الاجتماعات التحضيرية والمشاورات التي سبقت المؤتمر رغبتها في أن يطرح الملف النووي الإيراني علي قدم المساواة مع الطرح الخاص بإسرائيل وقدراتها النووية المبهمة وأنه لا مجال للقبول بتسوية أو صفقة علي حساب الإيرانيين وهو موقف- علي حد تعبير دبلوماسي عربي كبير- ينم عن نضج كبير من الدبلوماسية المصرية في التعامل مع قضايا المنطقة وبخاصة دول الجوار رغم كل الخلافات المعلنة بين القاهرةوطهران في ملفات كثيرة شائكة. والمعروف أن ايران واحدة من دول' ترويكا' عدم الانحياز حيث ستتسلم من مصر الرئاسة الدورية في عام2012 وتضم الترويكا' كوبا' الرئيس السابق للحركة والتي سلمت مصر قيادة عدم الإنحياز. وقالت مصادر دبلوماسية إن نبرة حديث الوزير الإيراني كانت' إيجابية' وتجنب الهجوم اللفظي علي الولاياتالمتحدة وإسرائيل في هذه الجلسة حيث أشار إلي' نظام تل أبيب' في أحد التعقيبات دون استطراد. وقال متكي ان بلاده تتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتقديمها28 تقريرا والاف الوثائق للوكالة في أوقات سابقة, مشيرا إلي أن التعامل مع الوكالة كان أكثر إيجابية في عهد المدير العام السابق الدكتور محمد البرادعي وأن بلاده ردت علي استفسارات الوكالة عن سلمية البرنامج النووي منذ عامين. ومن جانبه, وجه السفير ماجد عبد الفتاح عددا من الأسئلة بغية استجلاء المواقف وبخاصة موقف طهران من عروض تخصيب اليورانيوم خارج البلاد, وبخاصة ما يتردد عن وساطة البرازيل وتركيا, وقد أجاب متكي بأن تركيا واليابان والبرازيل تتشاور مع إيران حول صفقة الوقود النووي, من حيث الكمية ومكان تنفيذ الصفقة, وقال: لابد من وجود ضمانات لإتمام الصفقة وأن حكومة طهران تريد وضع إطار زمني لإتمام الصفقة في أقرب وقت ممكن حيث ترغب في تقديم اليورانيوم المنخفض التخصيب3.5% والحصول علي يورانيوم عالي التخصيب بنسبة20% من اجل توفير الوقود اللازم لمفاعل النظائر المشعة الذي يخدم قرابة800 ألف من المواطنين الإيرانيين وهو المفاعل الذي حصلت عليه إيران من الأرجنتين في السبعينيات من القرن العشرين ولا علاقة له بمفاعل بوشهر الذي تدور حوله شبهات التخصيب للأغراض النووية العسكرية. وقال الوزير متكي ان مكان تسليم اليورانيوم سيكون إيران نفسها ولكنه لم يستبعد أن يدخل بلد ثالث في الصفقة مثل البرازيل مؤكدا أن الوكالة الدولية يمكن أن توفر ضمانات لطرفي الصفقة! ونفي الوزير الإيراني في هذه الجلسة رغبة بلاده في إفشال المؤتمر وقال: نحن لسنا ضد المؤتمر.. ولدينا قدر كبير من التفاؤل.. ولن نعرقل الوصول إلي اتفاق. مشيرا إلي أن المؤتمر في دورته الحالية يوجه رسائل قوية حول تقوية بنود المعاهدة ومنع الانتشار النووي. ولم يظهر المسئول الإيراني حماسا كبيرا لفكرة عقد مؤتمر إقليمي لإنشاء منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الأوسط وقال إن' النظام في فلسطينالمحتلة في إشارة إلي إسرائيل- عليه الانضمام إلي المعاهدة باعتبارها دولة غير نووية وقال ان الإسرائيليين لا يلتزمون بالأطر العملية بدليل عملية السلام. .................. .................. وقال الوزير متكي ان طهران تسعي إلي تحقيق ما سبق أن أعلنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما في براغ العام الماضي من السعي للحد من الخطر النووي وتتمسك بذلك نافيا ما يتردد عن رفض بلاده دعوات الحوار مع الإدارة الأمريكية الحالية. وقال متكي إن العلاقات بين طهران وواشنطن يشوبها مناخ من عدم الثقة في الأعوام الثلاثين الأخيرة ولكن يمكن الوصول إلي تفاهمات.. مشيرا إلي مصالح مشتركة للطرفين في العراق وأفغانستان والدخول في مشاورات حول العراق وموضوعات إقليمية أخري في السابق. وأوضح أن هناك ثلاثة اهداف استراتيجية لإيران في أفغانستان وهي تحقيق الاستقرار ومحاربة المخدرات ومكافحة الإرهاب وقال ان السياسة الأمريكية' فاشلة' في أفغانستان لأنها لا تفهم الواقع علي الأرض ضاربا مثالا بحملات القضاء علي تجارة السلاح في هذا البلد حيث تدفع أمريكا أرقاما كبيرة لجمع الأسلحة وهي الأموال نفسها التي تخلق رواجا أكبر في سوق السلاح الداخلية. وأبدي متكي رغبة طهران في تقديم المساعدة للإدارة الأمريكية في أفغانستان. وقد شارك في الحوار وطرح الأسئلة والاستفسارات علي متكي عدد كبير من سفراء الدول الأعضاء في الحركة ومن بينهم سفراء العراق وسوريا وأوغندا واندونيسيا. وقد أبدي السفراء العرب مخاوفهم للوزير الإيراني من البرنامج النووي الإيراني والهواجس الإقليمية من الطموحات الزعامية للنظام الإيراني واقترح بعضهم تنظيم زيارات دولية علي مستويات متعددة لتبيان حقيقة المشروع النووي الإيراني. وتقول مصادر مطلعة في الأممالمتحدة ان إيران تبدي قلقا متزايدا إزاء توجهات المدير الحالي للوكالة الدولية الياباني أمانو الذي صدرت في عهده القصير توصيات متشددة تدعو مجلس محافظي الوكالة إلي دفع إيران للقبول بالتزاماتها حيال المعاهدة وبروتوكولات الوكالة في الوقت الذي قال فيه الوزير الإيراني انه سبق أن اجتمع بأمانو في فيينا وميونيخ والمشاورات مستمرة وليست منقطعة. وفي الوقت الذي كان نجاد ومتكي يتحدثان إلي مسئولين من دول عديدة وإلي وسائل الإعلام الأمريكية, واصل سفراء ومندوبو الدول الخمس الدائمة العضوية وألمانيا مجموعة5+1 المشاورات السرية علي مقربة من الفندق الذي ينزل فيه الرئيس الإيراني وفي مساء الخميس الماضي, ايضا وجه متكي دعوة عشاء إلي سفراء الدول الخمس الدائمة العضوية وسفراء الدول المعنية بالمفاوضات الحالية حول الملف الإيراني لتنشيط مسار الحوار مع الدول الكبري في مجلس الأمن التي تغلف مشاوراتها بسرية غير مسبوقة تقلق طهران كثيرا. الرقصة مستمرة في نيويورك بين الولاياتالمتحدة او الغرب وإيران ولن تتوقف إلا بأحد أمرين إما قبول إيران بحل يرضي النظام علي المستوي الداخلي ويحقق للغرب صفقة عملية ترضي جميع الأطراف أو يتأكد مجلس الأمن من أن طهران غير جادة في الحل الدبلوماسي ويوقع عقوباته قريبا في انتظار خطوات أكبر في المستقبل وهو الخوف الأعظم في كواليس السلطة الإيرانية! .................. .................. الساعة تدق.. وشبح العقوبات ليس بعيدا.. فهل تكون الصفقة.. أم أنها المواجهة؟!