المسافة بين القضاء والسياسة لا يمكن تحديدها إلا بعد ربطها بشخصية صاحبها قاضيا وسياسيا فهناك القاضي الذي لا يخلط أوراق دوره السياسي بملفات قضاياه وأحكامه وهناك القاضي الذي تتساقط منه أحيانا بعض الأوراق التي تجعل المهمة شبه مستحيلة لحسم موقفه السياسي أو تأكيد شفافية دوره القضائي وهناك المستشار أحمد مكي شخصية فريدة في مزاياها وأيضا فريدة في عكس ذلك للدرجة التي يجمع سياسيون وقضاة علي أنه ظاهرة يصعب رصدها. عندما كان الرجل قاضيا علي المنصة كان دوره السياسي واضحا فقد كان واحدا من أهم دعاة استقلال القضاء بل وشارك في تقديم واحدة من أهم صور مسودات استقلال السلطة القضائية وبمجرد أن أصبح وزيرا- وقد كان هذا الأمر من رابع المستحيلات في الزمن البائد- استحدث طريقة متعددة الأنظمة, فإذا وجه صحفي أو إعلامي سؤالا يبادره: هل تسألني كقاض أم تسألني كوزير أم كمصري عادي ؟ يا سبحان الله الوزير القاضي السياسي المصري في شخص واحد وبأبسط الطرق وأسهل السبل, وبمجرد أن تستمع إلي إجابة الرجل وفق النظام الذي يتم تحديده تجد إجابته واضحة ومحددة ودقيقة تختلف دون اختلاف وتتفق دون اتفاق وفي كلتا الحالتين لا تجد لإجابته ما يمكن أن يكون كارثة ولكنها السياسة حينما تتلاعب برجل القضاء. أمس قدم القاضي أحمد مكي استقالته من منصبه السياسي كوزير, البعض هلل وكبر ورفع راية انتصار القضاء علي السياسة, والبعض حاول تقريب وجهات النظر وإقناع مكي بالتراجع عن الاستقالة وهي صفة محمودة في آل مكي عبر عنها وبنجاح المستشار أحمد مكي حينما قدم استقالته من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية وبالمساء كان يرأس جلسة الحوار الوطني بصفة النائب أيضا, والبعض الآخر ومنهم الإخوان الذين كسروا القلة وراء وزيرهم المختار بمجرد التقدم باستقالته وقال أحدهم: استقالة وزير العدل محمودة وأنهم يقدرون استقالة مكي من الوزارة, وإحساسه بعدم قدرته علي تطهير القضاء المصري من الداخل خاصة بعد غزوتهم أمام دار القضاء العالي في تمثيلية الثورة الكرتونية التي أكدت حكمة الإخوان في الثورة علي أنفسهم وكأنهم يبحثون عن محلل لمجلس الشوري في الانتهاء من قانون السلطة القضائية وبالفعل تحدي المجلس ذو الأغلبية الإخوانية ودخل معركة التطهير بالقانون دون مراعاة لأي شئ وكأن المعركة بين السياسي والقاضي التي شغلت المستشار مكي لعبة ينتصر فيها الإخوان! المؤسف أن كل الأوراق اختلطت بشأن قانون السلطة القضائية وما يرتبط به من ضوابط ستؤدي إلي مذبحة للقضاة, والمؤسف أيضا أن هناك من القضاة من ينادون بما يتضمنه القانون وتجدهم علي باب المرشد مثلما كانوا علي باب النظام السابق ينتصرون للسياسي علي حساب القاضي, أما المستشار مكي وحتي تثبت استقالته أو إقالته فإنه سيبقي ظاهرة فريدة في حسم الصراع بين السياسي والقضائي ولكن دون طعم ولا لون أو رائحة! رابط دائم :