مسيرة طويلة قطعناها مع السينما المصرية, طوال الشهور الماضية, فيها توقفنا عند بعض من معالمها الفذة الرائعة, وأقول بعضا لأنه مازالت شرائطها تحمل كنوزا هائلة مفعمة بالاثارة, تحتاج إلي العشرات من القراءات وسنوات من البحث الجاد والتنقيب المتأني, ولأن الشاشة الفضية في بلادنا شأنها شأن أي سينما في العالم فهي لم تخل من أفلام ضحلة ليست بالقليلة, اتسمت بالسذاجة والمعالجات السطحية, لكن رغم كل ذلك لا تنسي, الفارق أنها قد تثير الضحك المقرون بالتعاطف رغم مضامينها التراجيدية والميلودرامية والأمانة تقضي الولوج فيها وإظهار نقاط ضعفها وهي كثيرة من جديد والتي لم نكن نراها آنذاك, وكيف أنها عكست في النهاية دون أن يكون هذا مقصدها ملامح لجوانب خاوية من مجتمع كان هو الآخر أخاذا في التراجع بعد ان بدأ يتجه أفراده إلي نفط الخليج مستلهما مع لقمة العيش قيمه لاغيا تراثا عظيما من التنوير والتثوير معا, ومفرزا بالتزامن قيما عشوائية والتي نبذل الجهد النفيس من اجل إزالتها ومحوها, وأحلام يقظة جلها إنشاد البطولات والقوة والثراء السريع الفاحش. وهكذا واعتبارا من هذا الاسبوع ولمدة اسابيع قليلة قادمة, سننحو منحي مغايرا, محوره سيكون الطالح من تلك السينما, غير أن الصعوبة التي واجهتنا كانت البداية, فمن أي نقطة ننطلق وأي فيلم ضحل نختاره في مستهل تلك السلسلة فالركام غزير نسبيا, لكن قبل أن نبدأ علينا أن نتوجه بالتقدير والعرفان لهذا الموقع الالكتروني المعنونelcinema, كونه أتاح لنا ولعشاق الفن السابع, كما بيلوجرافيا ومعلومات وبياتات لا غني عنها فضلا علي قيامه بكتابة تلخيصات لحكايات الأقلام لا شك انها اعانت علي الذاكرة ووفرت إلي حد كبير عناء التفتيش في الارشيف الروقي, وقد استحق بحق ان يوصف بأكبر قاعدة بيانات للسينما العربية. الشياطين المخططون أتذكر الان تلك الصحبة العزيزة التي لا ادري أين ذهب أفرادها, وضمت أصدقاء الصبا في ذلك الماضي البعيد الذي يعود إلي أكثر من اربعة عقود خلت تقريبا, فبعد الحاح كل فرد فيها علي أهله تم السماح لهم بالذهاب إلي السينما مكافأة لنجاحهم في القبول الابتدائي واستعدادهم لمرحلة الاعدادي الجديدة, وكانت دار العرض قريبة من حيهم حيث يعيشون في ارض عزيز عزت, و اسمها الدارج كان' سينما الكيت الكات الجوانية الشتوية', فقد كانت علي بعد خطوات منها وبالقرب من النيل شقيقتها' البرانية الصيفي' وكلاهما باتا اطلالا ينعيان زمنا جميلا لن يعود قط, فقط احتفظ الناس بالاسم القديم' الكيت الكات' حتي هذه اللحظة رغم أن المكان وفي إطار المزايدات الدينية اعيدت تسميته إلي خالد ابن الوليد الذي لا يردده احد. بالطبع كان أفراد الشلة يعرفون مقصدهم, فالفيلم الذي سيرونه لشجيع السينما الذي لا يقهر أبدا أنه فريد شوقي أما الشريط فاسمه' شياطين الليل' الذي تم انتاجه وعرضه قبل النكسة المروعة بعام واحد فقط. وكان الملمح الاساسي الذي أعيه حتي الآن تمثل في طريقة ارتداء الشياطين' الابطال' لملابسهم البيضاء المخططة وفي معاصمهم أساور جلد سوداء مدببة بقطع من النيكل الفضي لزوم المعارك مع الاعداء ويبدو أن تلك الطريقة اتسم بها اهل البلطجة, وفي مقاعد الترسو المهترئة كان الصراخ لا يتوقف خصوصا عندما كان فريد شوقي ينتصر بضربة واحدة علي العصابات المؤججة بالسلاح وكان بعض المتفرجين لا يألون جهدا في تأدية وتقليد الحركات أمام الشاشة واصوات تنطلق تنبه البطل المغوار' حاسب خللي بالك' ويالها من مصادفة فقد كان ينتبه فورا إلي الشرير الذي يحاول طعنه من الخلف, لكن شجيعنا وبحركة بهلوانية اسطورية سينقض عليه ويجعله يقتل نفسه بخنجره, وفي لحظة ترنح هذا البغيض وبسقوطه في النهاية تتعالي التهليلات والدعاء بطول الحياة للبطل. نعود إلي حكاية الفيلم والتي دارت وقائعها في عام1919, ويالها من دلالة فهذا العام كان ميلاد ثورة سعد باشا زغلول من أجل الاستقلال, وربما اراد صانعوه ان يقولوا ان فيلمهم كان يجسد إرهاصات تلك الثورة وطبقا للحكاية التي لخصها لنا محمود قاسم يتولي عطوة' فريد شوقي1920 1998 مسئولية أخيه الصغير صلاح كي يتم تعليمه, وهو عامل صغير في أحد المصانع, ويتمتع بقوة جسمانية ملحوظة, يقرر أن يعمل قوادا في شارع عماد الدين لحماية بنات الليل, يتعرف علي روحيه إحدي بنات الليل, التي فقدت أسرتها علي أيدي قوات الاحتلال الإنجليزي, وبالتزامن يلتقي عطوه بإحدي الأميرات, ويصبح من رجالها, ويعمل جاسوسا لحسابها, لنقل أخبار الفدائيين, تعرف روحية بخيانته فتهجره, لكن صلاح شقيقه الأصغر سيلقي مصرعه برصاص الإنجليز, وهنا يكتشف الأخ الأكبر أن أخاه كان من الفدائيين, فيصاب بندم شديد, ويقرر الانضمام إلي صفوف المناضلين وبمساعدة روحية' هند رستم التي تركت حياة الليل, يهاجم أوكار البريطانيين المحتلين ورجالهم خاصة الذين يأتون إلي شارع عماد الدين, وهكذا يصبح عطوة نموذجا للبطل الشعبي, ويتزوج من روحية, وتنتهي القصة التي كتبها واخرجها نيازي مصطفي1910 1986 ويمكننا أن نلاحظ بسهولة في المعالجة التي وضع لها السيناريو والحوار كمال إسماعيل هذا الإقحام الفج بقضايا الوطن في أوكار الليل والعكس, ويبدو أن القائمين علي العمل السينمائي لم يكلفوا أنفسهم عناء التدقيق والبعد عن التوليفات المضحكة, فجل اهتمامهم انصب علي استلاب جمهور الترسو العاشق للنجم السوبر البطل الشعبي الذي لا يقهر لكنه مع الأسف سيقهر وبطريقة أيضا تدعو للسخرية والضحك والبكاء معا. باشا في مستهل السبعينيات هذا التغييب من جانب واللعب علي مشاعر المتفرجين البسطاء من جانب آخر سيستمر بقوة واندفاع في السنوات التالية من عقد الستينيات, وبدايات حقبة السبعينيات, ويبدو أن هذا كان مطلوبا وبشدة من نخبة مجروحة بعد هزيمتها في عام1967 وكان عنوان هذه المرحلة أبي فوق الشجرة بقبلاته التي ناهزت الخمسين قبلة ولأن الفيلم الذي أخرجه الراحل حسين كمال1934 2002 استمر عرضه اكثر من ثلاثة وثلاثين أسبوعا, فقد أثار شهية الكثيرين ومنهم الراحل محرم فؤاد1934 2001, ومن خلال شركته المعنونة بأفلام النيل قام بانتاج, بجانب التمثيل طبعا, فيلم عشاق الحياة والذي أخرجه حلمي حليم عام1971 ورغم أن مضمون الفيلم كما قالت التترات عن قصة لفاروق القاضي إلا أنه في الحقيقة مزيج من فيلم عبد الحليم حافظ1929 1977, وحكاية إنجي من فيلم رد قلبي, ولعبت نادية لطفي أيضا دور البطولة مع الفارق أنها في ابي فوق الشحرة كانت غانية, أما في عشاق الحياة فهي ابنة باشا كبير, مع ملاحظة أن الشريط لا يقول لنا ان وقائعه في الماضي بل العكس فكل المشاهد كانت تشير إلي نفس فترة عمل الفيلم وثمة فارق آخر جوهري وهو أن القبلات ستكون من نصيب الفنانة اللبنانية' حبيبة', وبخصوص الحدوتة المعادة المملة عن البطل أحمد' محرم فؤاد' ابن الرجل البسيط الذي كان يعمل لدي الباشا' يوسف وهبي1898 1982 يعود من بلاد الفرنجة متسلحا بعلوم الموسيقي والفضل طبعا يعود إلي الباشا الذي تبناه إكراما لابيه ولكن بطلنا الشاب لا يتبين الفارق الشاسع بينه وبين ابنة الباشا التي يحبها وهي بالمناسبة اسمها مني تيمنا بأسماء بطلي الفيلم الرومانسي الرائع اغلي من حياتي, فيتقدم لأبيها طالبا يدها وتكون الصدمة كيف يجرؤ علي تلك الخطوة والقصة بعد ذلك معروفة, ونهايتها السعيدة كالعادة! لكن المذهل كان في تلك الاغاني التي شدا بها محرم فؤاد في الفيلم: والنبي لنكيد العزال, وياكيدنهم بالقوي ياحنا, وتندم ندمي وتشرب ناري, ورغم جمال لحنها وعذوبة صوت محرم فؤاد إلا أنها بدت جملا مبتذلة لا تنسجم ابدا مع مشاهد الفيلم السياحي أكثر منه أي شيء آخر, والحق أن المرء حينما يشاهد هذا العمل يصاب بمشاعر متناقضة ومتضاربة, فهل يبكي أم يشفق علي صناعه أم يضحك علي تلك السذاجة المفرطة ؟