لاأدري ما الذي أثار هياج بعض الناشطين السياسيين المستقلين حين أكدت هذا المبدأ الرئيسي من مباديء الممارسة الديمقراطية, وذلك في برنامج تليفزيوني شاركت فيه أخيرا( مصر النهاردة). ربما ظنوا أن في ذلك إلغاء لدورهم الذي يقومون به منذ فترة, حين زعموا أنهم هم وحدهم وليست الأحزاب السياسية المعارضة الذين سيقومون بمهمة التحول الديمقراطي في مصر! والمستقلون الذين يرفعون هذه الشعارات البراقة جماعات شتي, أحيانا يتعاونون وأحيانا أخري يتنافسون منافسات شرسة, وقد لحقتهم للأسف الشديد بعض أمراض أحزاب المعارضة المصرية, والتي تتمثل في التنافس الفج والعقيم علي من هو الرئيس ومن هو المتحدث الرسمي باسم جماعة ما, ومن هو المنسق الفرعي لجماعة أخري, ومن هو المتحدث الاعلامي لجماعة ثالثة! هذه الجماعات من الناشطين السياسيين فيهم ولاشك شخصيات مهمة ومحترمة ولكل منها تاريخ. ولكن منهم أدعياء باحثون عن الشهرة الإعلامية بأي ثمن, ويحاولون لعب أدوار أكبر من قدرتهم المتواضعة, ويسعون عبثا لإقناع وسائل الإعلام المختلفة بأنهم هم الزعماء الحقيقيون لهذه الجماعات, بدليل أنهم يديرون الاجتماعات ويعطون الكلمة لمن يشاءون, ويحرمونها علي من يشاءون! وقد نشرت الصحف أنباء عن احتجاج بعض أعضاء هذه الجماعات علي الطريقة الديكتاتورية التي يدير بها الاجتماعات أحد المنسقين( هذه هي وظيفته المصطنعة المعلنة). وفي جماعة أخري تزعمها بعض المدونين اجتمع هؤلاء وأعلنوا فصل رئيس الجماعة, ورد هو نفسه عليهم بفصلهم هم. وكون جماعة أخري ممن هم مستعدون لأن يكونوا طوع بنانه! ولا أدري كيف فات هؤلاء الناشطين المستقلين أنه ليست هناك في أي ديمقراطية معاصرة حياة سياسية فعالة بغير أحزاب سياسية, وهكذا فالادعاء بأن جماعات ما حتي ولو كانت متناثرة, وليس هناك ما يوحد بينها أيديولوجيا قادرة بمفردها علي أن تحل محل الأحزاب السياسية ادعاء باطل ليس له من أساس! ولقد كان غريبا أن يهاجم هؤلاء الأحزاب السياسية المصرية المعارضة, وأن يوجهوا لها عديدا من التهم, كالضعف وعدم الفاعلية وفقدان القواعد الشعبية. وإذا كانت بعض هذه الانتقادات صحيحة, فقد كان الأجدر بهم لو كانوا ديمقراطيين حقا أن يطالبوا أولا بإلغاء التشريعات التي تقيد حركة هذه الأحزاب في الشارع السياسي, وثانيا أن ينضموا لهذه الأحزاب كل حسب ميوله واتجاهاته الإيديولوجية لكي يضفوا حيوية مطلوبة عليها, وأن يحاولوا إقناع أجيال الشباب الصاعدة بأن ينخرطوا في أحزاب سياسية, بدلا من العمل متفرقين, وسواء قاموا بمظاهرات في الشارع بغض النظر عن تأثيرها, أو قبعوا كمدونين وراء حواسبهم الإلكترونية تحت وهم أنهم يستطيعون إرسال رسائل صادرة من الفضاء المعلوماتي, جديرة بأن تدفع الشعب إلي الثورة العارمة ضد النظام السياسي! *** مارس هؤلاء المستقلون نشاطهم تحت مسميات مختلفة, فقد نشأت جبهة ضد التوريث وقامت جماعة أخري باسم مصريون من أجل التغيير وجماعات متعددة أخري باسماء مختلفة من الصعب حصرها جميعا. غير أنه يلفت النظر أن كل جماعة يعين أحد أعضائها نفسه متحدثا باسم الجماعة, ويدلي بتصريحات سياسية ساخنة في الصحف والفضائيات, ويلعب دور الزعيم السياسي الصاعد! وهناك جماعات أخري لا تعترف برئيسها الذي حين يصدر تصريحات زاعقة, أو يتخذ مواقف متطرفة, فإن الأعضاء يتبرأون منها ومنه, ويقررون أنه لايعبر إلا عن شخصه! ولو دققت قليلا في بعض شخصيات هذه الجماعات من المستقلين فإنك ستجد أن بعضهم يحاول عبثا أن يبحث لنفسه عن دور, ولذلك تراه يضخم من أهداف الجماعة التي ينتمي إليها, وينسب إليها إنجازات لم تحدث علي أرض الواقع! وفي مواجهة هذه التحركات التي تتسم في كثير من الأحيان بالعشوائية, قام ائتلاف أحزاب المعارضة وهي أربعة أحزاب( التجمع, الناصري, الوفد الجبهة الديمقراطية) بالدعوة إلي مؤتمر مهم لطرح قضية التغيير السياسي في مصر بصورة منهجية, تحمل في طياتها مقترحات محددة لتغيير الدستور وقوانين الانتخابات وغيرها من الإصلاحات السياسية الضرورية. وقد وجهت لي الدعوة لحضور المؤتمر ولم استطع تلبيتها للأسف لسفري للخارج للعلاج في توقيت انعقاده, غير أنني اطلعت بعناية علي جدول أعمال المؤتمر, ووجدت أن قائمة المتحدثين والمعلقين علي أرفع مستوي من الثقافة, وكل منهم له تاريخ مشرف في العمل العام. وقد اعتبرت انعقاد هذا المؤتمر صحوة إيجابية لأحزاب المعارضة. وأول علامات هذه الصحوة هو هذا الائتلاف الذي يشير إلي رغبتهم في توحيد جهودهم من أجل التحول الديمقراطي في البلاد. غير أن ثاني علامات هذه الصحوة هو تجديد خطاب أحزاب المعارضة. ويكشف عن ذلك بكل وضوح وجلاء عدم وقوفها السلبي عند حد انتقاد سياسات الحزب الوطني الديمقراطي باعتباره حزب الأغلبية, وإنما الانتقال بطريقة إيجابية إلي إيجاد البدائل, سواء للدستور القائم من خلال اقتراح بإجراء بعض التعديلات الأساسية عليه, أو عن طريق صياغة سياسات بديلة لسياسات حكومية مرفوضة من وجهة نظر هذه الأحزاب. وحين تأملت جدول أعمال المؤتمر أدركت أن هناك رؤية متكاملة قدمتها أحزاب المعارضة وهي مما لاشك فيه تصلح كورقة عمل لإجراء حوار سياسي فعال مع الحزب الوطني الديمقراطي من ناحية, ولإدارة حوار مجتمعي سياسي واسع المدي من ناحية أخري. لقد كان النقد التقليدي الذي يوجه لأحزاب المعارضة أنها تقنع عادة بالنقد, ولا تتقدم خطوات أبعد في مجال اقتراح السياسات البديلة. وقد استجابت أحزاب المعارضة بشكل إيجابي لهذا النقد, وعقدت منذ فترة مؤتمرا باسم السياسات البديلة شارك بأوراقه البحثية فيه عدد من أصحاب الأسماء المعروفة بعملها وجديتها في تخصصات مختلفة. وقد حرصت علي الإطلاع علي هذه الأوراق, وخلصت إلي نتيجة مفادها أن الهدف في ذاته كان نبيلا, وهو السعي لصياغة سياسات بديلة, غير أن التنفيذ لم يكن علي مستوي نبل الهدف! وذلك لأن غالبية الأوراق لم ترق لمستوي العمق المطلوب, وإنما قنعت بذكر عناوين عريضة, بدون محتوي كاف من ناحية, أو بصورة غير منهجية من ناحية أخري. غير أن الأوراق الخاصة بالتغيير السياسي في مؤتمر أحزاب المعارضة الذي أشرنا إليه, تعد خطوة متقدمة تتسم بالنضج الفكري والوضوح السياسي. وكان ينبغي علي أحزاب المعارضة أن تقترح علي الحزب الوطني إقامة حوار ديمقراطي لمناقشة هذه الورقة, وأوراق أخري قد يري حزب الأغلبية ضرورة تقديمها, حتي تدور المناقشة حول رؤي سياسية تتسم بالوضوح, من قبل المعارضة والأغلبية معا. بل إنني أبعد من ذلك كنت أنتظر أن تستخدم أحزاب المعارضة محصلة أعمال المؤتمر لإقامة حوار مجتمعي واسع المدي, تشارك فيه مؤسسات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث, ومثقفون يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي. ووظيفة هذا الحوار في الواقع هي ترسيخ ثقافة الاختلاف, بمعني حق كل فصيل سياسي بطرح رؤاه بصورة جادة ومحددة, وطرح هذا الاجتهاد علنا وعرضه علي ممثلي الفصائل السياسية الأخري للمناقشة. وهكذا يمكن أن نرسخ مبادئ أساسية في الحوار السياسي, تقوم علي أساس الاعتراف بالآخر السياسي إذا كان يؤمن فعلا بالدستور والقانون, وممارسة الحوار في ضوء تقاليد وآداب الحوار. ولاشك أن المجتمع المصري يفتقر حتي الآن إلي ثقافة الحوار, ليس فقط بالنسبة للأمور السياسية, ولكن أيضا بالنسبة للقضايا الاقتصادية, والمشكلات الاجتماعية. وما نقترحه هنا أدوات منهجية لضبط الحوار حول التحول الديمقراطي في مصر, بدلا من الدعوات الغوغائية لعديد من جماعات المستقلين, والتي تدعو للتغيير العشوائي للنظام السياسي القائم, بدون أن يتحدث أحد عن شكل النظام السياسي القادم الذي قد يحل محله, وما هي اتجاهات القوي السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ستهيمن عليه وتحدد اتجاهاته. وهذا هو الفرق بين التحول الديمقراطي المتدرج والذي تشارك فيه بفاعلية الأحزاب السياسية المعارضة باعتبارها ركنا أساسيا من أركان النظام السياسي القائم, وبين المطالبة بانقلاب عشوائي ضد النظام, لن ينتج عنه سوي موجات من الفوضي غير الخلاقة!