تحمل مشكلة الصراع بين فكرتي: العلمانية والدين عندنا في مصر والشرق, تاريخا مختلفا عن السياق التاريخي الذي أنتجها في أوروبا, في الغرب كانت نتاجا لتطور وحاجة اجتماعية, بعد مصادرة الكنيسة للعديد من الحقوق البشرية باسم الدين, وتداخلها مع سلطة الاستبداد السياسي فيما عرف بعصور الظلام( العصور الوسطي).. لكن السياق التاريخي العربي والمصري لظهور الصراع بين ما سمي: بالعلمانية والدين, يأتي بعد ذلك بفترة طويلة ويعود لأواخر القرن التاسع عشر والقرن والعشرين, حينما بدأ المشروع السياسي التاريخي المرتبط بالإسلام( ممثلا في تركيا الخلافة العثمانية) في الأفول بشكل نهائي, وظهر في تركيا كمال أتاتورك الذي رأي في تخلص تركيا من تركتها السياسية المرتبطة بالإسلام ودوله حلا علي الطريقة الأوروبية للعلمانية, فكان رد فعله عنيفا إزاء كل ما يربط تركيا بتركتها السياسية ومشروع الخلافة. وفي مصر والدول العربية ظهرت بداية الخلاف المفتعل لحد بعيد بشكل مقارب, رأي البعض أن الأطروحات السياسية التي ظهرت بوادرها بعد انهيار النظام السياسي للخلافة, ممثلة في أطروحات: الوطنية, القومية, الاشتراكية, الرأسمالية.. الخ, رأي فيها ردة وعداوة لفكرة النظام السياسي الذي يرفع شعار الإسلام, ورأي فيها امتدادا لفكرة العلمانية الأوروبية, وهزيمة للمشروع الإسلامي في عقر داره, واتخذ موقفا معاديا من كل فكر وأطروحة بشرية للحكم السياسي لا تنطلق من قواعد الفقه, ولا تقدم لنفسها تكييفا في اطار الانتصار للإسلام, الذين ظنوا أنه هزم مع هزيمة تركيا, وانهيار مشروعها السياسي المرتبط بشعار الدين! فتحول هذا التيار لما عرف في الأدبيات العربية باسم الإسلام السياسي, أو التيار الذي يري ضرورة رفع شعار الإسلام مرة أخري وربطه بنظام الحكم, حتي يعود ما رأوا أنه المجد السياسي الضائع.. ومن هنا كان السياق التاريخي لظهور فكرة الصراع المفتعل بين العلمانية والدين في مصر والعالم العربي, الذي تعود له جذور المشهد السياسي الراهن في العقد الثاني من القرن21! وفي حقيقة الأمر, تم توريط تيار الإسلام السياسي في فكرة: امتلاك الحق الإلهي, واحتكار الحديث باسم الدين, لأن الدين دعوة وتبيان للحق والباطل, مع ترك الحرية للناس في الاختيار بينهما, حتي تأتي منطقية فكارة: الحساب, والثواب والجزاء, ودرجات الجنة والنار. فتم الخلط بين الدعوة وبين إجبار الناس علي اتباع مقتضيات الدعوة, وترسخ عندهم الشعور بأنهم في حرب مقدسة من أجل الدين, يواجهون عدوا يسعي لتدمير المقدس, وتبرز المشكلة أكثر عند بسطاء المصريين, الذين يندفعون للمعركة بحميتهم وارتباطهم التاريخي بالدين. كما تم توريط تيارات الأحزاب السياسية في فكرة: معاداة الدين والقطيعة معه, في حين أن غالبية هذه التيارات تنتمي للمشروع الحضاري العربي والإسلامي, وتحافظ علي كثير من قيم دينها بشكل متحفظ جدا, لكنها اختارت ألا ترفع في التنافس والتناحر السياسي شعارات دينية مقدسة, يدعي كل فصيل سياسي تمسكه بها وتعبيره عنها أكثر من الآخر, حتي لا يتحول المقدس المطلق إلي بشري نسبي, فارتبطت بأفكار وأطروحات سياسية لا ترفع شعار الدين تعففا وتقديسا له عن التدافع البشري, وأصبح يملك رد فعل سلبيا تجاه ربط السياسة بشعارات دينية, وشعر هؤلاء بأنهم في مواجهة دولة دينية بمفهوم تسلط أفراد تطلق أحكاما قطعية وحدية ومطلقة باسم الدين.. والحقيقة أن لا هؤلاء علمانيون بمفهوم القطيعة مع الدين, ولا أولئك دينيون بمفهوم احتكار الحديث باسم المقدس ومحاكمة الناس في الأرض, إلا من شذ أو جهل من هنا أو من هناك. حرص النظام السياسي المستبد القديم علي تزكية الصراع بين التيارات السياسية وتيارات الإسلام السياسي وحرص علي وجودها تحت سيطرته حتي يمنع ذلك الصراع التاريخي المفتعل ظهور تيارات جديدة, قد تخلخل سيطرة النظام المستبد علي البلاد والأفكار النمطية السائدة فيها, كان ذلك الصراع جزءا من آليات السيطرة علي البلاد وتوجيه نشاطها الجماعي, بعيدا عن القضايا المشتركة والحقيقية والواقعية. جذر المشكلة أن المسار السياسي للثورة, كان من المفترض أن ينتج نخبة جديدة تتجاوز مساحة الصراع التاريخي بين ما سمي: بالعلمانية والدين في مصر, لكن النظام القديم ممثلا في المجلس العسكري نجح قبل أن يرحل, في تشويه وتخريب المشهد السياسي ليبقي علي قديمه تحت نطاق السيطرة, استحضر ملف الفتنة الطائفية, وصعد بعض علماء الفرق الدينية الذين تربوا في كنف الجهاز الأمني لدولة الاستبداد, وشجع الوقفات الفئوية.. فضرب فكرة الثورة في مقتل, ونجح حتي الآن في إجهاض لحظتها التاريخية, التي كان من المفترض أن تكون لحظة مفصلية, تنتج نخبة جديدة تتجاوز الصراع المفتعل بين العلمانية والدين, وتنتج قيمها ومنتجاتها الفكرية والاجتماعية الجديدة, المرتبطة بواقع الناس ومشاكل مصر التاريخية الحقيقية. لن يكون هناك حل جذري وحقيقي للصراع المزعوم بين العلمانية والدين في مصر والعالم العربي, إلا بلحظة مفصلية تاريخية تنتج نخبة تتجاوزه, فهل ينجح الثوار في اكتساب المهارات السياسية وتحين الفرصة والعودة للمشهد من جديد, بخطاب قادر علي الاستحواذ علي وجدان الشعب والتعبير عنه! أم سنبقي لحين أمام الحل المتاح بضرورة الوصول لصياغات توافقية, تراعي قيم وأخلاق مصر وهويتها الدينية التاريخية, وفي نفس الوقت لا تعطي لأحد سلطة أن يكون مؤسسة دينية, تملك وتحتكر تحديد الصواب والخطأ.. لحين: يبقي الأمل في الذي هو غائب, والحل في الذي هو متاح. كاتب وباحث رابط دائم :