أكتب لكم هذه الكلمات قبل موعد الاستفتاء علي الدستور بيوم، وحين مطالعتها يكون نصف الشعب قد قال كلمته، وبالتالي يبقي تناوله مهمة الزملاء من كاتبي الأعمدة اليومية، فقط أريد أن أحدثكم عما جري قبل الاستفتاء، وما حدث من مهازل باسم الحرية والديمقراطية والدماء التي أريقت علي مذبح الخلاف علي الدستور، ودفعنا نحن الصحفيين قسطنا منها، محتسبين عند الله شهيدنا المصور الصحفي الشاب الحسيني أبوضيف، تغمده الله بواسع رحمته. كان المشهد في نقابة الصحفيين مساء الأربعاء الماضي عاصفاً ومهيباً، إذ تجمع الصحفيون من شتي الأعمار والصحف في حشد يتفجر حزناً وغضباً في انتظار وصول جثمان شهيد الصحافة، الذي لاقي وجه ربه أثناء أداء واجبه الصحفي برصاصة غادرة رماه بها غدار أثيم لا يعرف ربه أمام قصر الاتحادية، ليغلق للأبد عدسة كاميراته التي طالما سجلت للحقيقة والتاريخ وقائع مصورة تنبض بالحياة لأحداث مصر بحلوها ومرها، استشهد أبوضيف بعد خمسة أيام قضاها في العناية المركزة بقصر العيني، مات شهيداً وتوزع دمه علي فرقاء الصراع الدامي، وتنصل كل فريق من الجريمة وادعي براءته منها. وفيما كانت صيحات شيوخ الصحافة وشبابها تتعالي منددة بالجريمة ومطالبة بالقصاص، تساءلت بيني وبين نفسي: أهو الحسيني أبوضيف من مات أم أننا جميعاً متنا وماتت ضمائرنا، حين قبلنا لبلادنا أن يستباح أمنها من أجل طموحات نفر من الرجال والجماعات لأهم لهم سوي شهوة السلطة وكراسي الحكم. وفي سبيل هذه الشهوة ولأجلها لا يعنيهم في كثير أو قليل ما قد يحدث من نزيف دماء وأنفس حرمها الله، أو أي هاوية يدفعون إليها وطنهم وبني جلدتهم من بسطاء المصريين. في أربعاء الغضب رأيت الدموع والحزن يعصفان بعشرات المئات من أبناء المهنة، ولاح لي الحسيني أبوضيف بقسمات وجهه المفعم بالأمل، الذي طالما اعتدت رؤيته في مناسبات وطنية ونقابية عدة، خيل لي أنه يزاحم ليأخذ موقعاً يتيح له الزاوية المناسبة لتصوير الحدث الذي يسجله بكاميراته، فالعدسة وحدها لا تصنع الصورة، والأهم منها الشخص الواقف خلفها، والذي يعطي للصورة بعداً فنياً بحسن تمركزه واختياره الزاوية المناسبة للقطة. وقد كان الحسيني أبوضيف يرحمه الله فناناً موهوباً،عشق الكاميرا أخلص لها فأخلصت له، أحب مصر وعشق بسطاءها، ومن أجل وطنه خاض المخاطر ليسجل لصحيفته وللتاريخ صوراً بل لوحات فوتوغرافية حية لتاريخ مصر وشعبها، غير عابئ بما قد يصيبه من أذي، وقد دفع لقاء دفاعه عن هوية مصر الحضارية وإخلاصه لمهنته ثمناً غالياً من دمائه الزكية، ليرحل عن الدنيا ووطن أحبه وهو لا يزال في شرخ شبابه إذ لم يتجاوز من العمر 33 عاماً، هي عدد قليل بحساب السنين كبير بحساب عطاء صاحبها. وقد آلمني أن حال تقدم السن وبين المشاركة في مراسم دفن الابن والزميل الراحل في مسقط رأسه بمحافظة سوهاج، مكتفياً بحضور جنازته المنطلقة من مقر النقابة، وعزائي أن ناب نجلي عادل عني في هذا الواجب، وبكيت وحشود الصحفيين تزحف خلف نعش أبوضيف، وتشاركهم في تشييعه فئات من مختلف طبقات الشعب لم تعرف الراحل معرفة شخصية، لكنها أقبلت لتشارك بعدما سمعت به، وذكرتني ضخامة الحشد السائر في جنازة الفقيد بقول أمير الشعراء أحمد شوقي في رثاء زعيم الأمة مصطفي كامل: ولم أر مثل نعشك إذ تهادي. فغطي الأرض وانتظم الأناما تحمّل همة وأقل دينا. وضم مروءة وحوي زماما يرحم الله زميلي الشاب الحسيني أبوضيف، وأساله عز وجل أن يحول دون تكرار مثل هذه المأساة، وأن يجمع شتات قادة الرأي في بلادنا الحبيبة علي كلمة حق تعيد للوطن الاستقرار الذي افتقده، لتعود مصر كما كانت دائماً وطنا لكل المصريين.