عاشت القاهرة يوم الأربعاء الماضي مشاهد مرعبة من يوم الحشر العظيم, بعدما استيقظ أهلها علي كارثة إضراب العاملين بمترو الأنفاق ليتعطل نحو خمس ساعات مرت كأنها الدهر علي قاطني العاصمة وزوارها من المحافظات, مما يؤكد اختطاف ركاب المترو كرهائن من أجل حفنة من السائقين والملاحظين وموظفي المرفق الذي ثبت أنه لا غني عنه مهما تكن الظروف, ففي ظل غيابه يستحيل علي الكثيرين الذهاب إلي أماكن عملهم وعليهم أن يختاروا ما بين التغيب أو المجازفة بركوب الأتوبيسات والتاكسيات والميكروباص ليكونوا صيدا ثمينا لهواة الصيد في المياه العكرة وتجار الأزمات المصطنعة. لقد كنت في طريقي لقضاء بعض مصالحي في وسط البلد في ذلك اليوم الكارثي, وقصدت كعادتي محطة مترو عين شمس, فإذا بي أجد من يخبرني بأن المترو عطلان ونصحني بالرجوع, لكني مضيت حتي تأكدت بنفسي, فلم أكن مصدقا أن هذا المرفق يمكن أن يخرج عن الخدمة كل هذا الوقت, ولعلني كنت لا أريد أن أصدق أنه متوقف, لأن هذا معناه باختصار عودتي من حيث أتيت وعدم قضاء مصلحتي, لكن من باب العناد, وربما التحدث للذات قررت أن أمضي إلي طريقي بدون المترو لأول مرة منذ11 عاما, حيث فشلت في إيقاف تاكسي, ولم أعثر علي مقعد في ميكروباص, أو أظفر بكرسي في أتوبيس, وكل ما نجحت فيه حشر نفسي علي سلم الأتوبيس, وأمسكت بملابس أحد الركاب خشية الوقوع, ورويدا رويدا تمكنت من إدخال كامل جسمي داخل الأتوبيس في شكل ينتهك كل معاني الكرامة الإنسانية, ويحول رحلة الذهاب إلي العمل إلي قطعة من الجحيم. المهم أنه لم يطل بنا المقام داخل الأتوبيس فقد كانت الأحاديث في الموبايل لا تتوقف حتي جاء الفرج عندما سمعت راكبة تقول: المترو اشتغل, فبادرتها هل أنت متأكدة؟ فقالت: بلي, عندها لم أدر بنفسي إلا وأنا أقفز من الأتوبيس, ونظرا لشدة الزحام فقد تحرك قبل أن أغادره, وكدت أقع مصابا لولا عناية الله وجريي عدة أمتار قبل التوقف والتوجه لمحطة حلمية الزيتون لاستقلال رفيقي اليومي وكأنني مثل سائر الركاب عثرنا علي أقصي أمانينا. لقد دار الحديث طوال الرحلة حول هيبة الدولة التي ضاعت, أو علي نحو أدق أضعناها بأيدينا, وكيف أصبح بمقدور قلة قليلة احتجاز الشعب أو بعضه إلي رهينة أو مطية للحصول علي بعض المكاسب الفئوية حتي ولو كانت مستحقة, فالغاية لا يمكن أن تبرر الوسيلة وما ذنب مسن في البهدلة, أو طالبة جامعية في التأخر عن محاضرتها, أو موظف في الحرمان من الذهاب إلي عمله؟ ومن الذي يتحمل الخسائر التي يتعرض لها الاقتصاد الوطني بتأثير هذه الممارسات الخاطئة التي تختصر الديمقراطية في السباب والشتائم عبر الفضائيات والاعتصامات والاحتجاجات حتي لو أدي ذلك إلي كارثة تحل باقتصادنا الهش الذي بات يحتاج إلي معجزة لتفادي الإفلاس والوقوع تحت وصاية الدائنين من صندوق النقد وخلافه. لقد ذكرني الأربعاء الحزين في القاهرة بواقعة اختطافي مع أفراد أسرتي داخل ميكروباص من موقف بنها العمومي في أثناء عودتي من زيارة أهلي في عيد الفطر الماضي, بعدما رفع السائق الأجرة إلي الضعف, مما دفع راكبة محترمة إلي التشابك اللفظي معه, فما كان منه إلا أن حلف بالطلاق أن يأخذ السيارة بالركاب إلي بيته, وهو ما حدث بالفعل, وبعد شد وجذب وتبادل الألفاظ النابية بين الركاب, حدثت المعجزة ومن علينا السائق بالتوجه إلي القاهرة معتبرا نفسه أكثر رحمة وإنسانية من قرنائه لأنه رفع الأجرة إلي الضعف, بينما رفعها الآخرون أربعة أضعاف, وليس سرا أن زيارتي لأهلي منذ هذه الواقعة باتت عبئا وحملا ثقيلا برغم قلة ترددي علي بلدتي ببنها. إن مصر الثورة لن تتقدم بفعل هذه الأفعال الصبيانية ولا بالاحتجاجات الفئوية أو الاقتراض من الخارج, لكنها ستنهض فقط بالعمل وزيادة الإنتاج والكف عن إضاعة ما تبقي من هيبة الدولة, وما لم ندرك ذلك فقل علي الثورة السلام, ولن نفاجأ باندلاع ثورة جياع.