أربعينية تحتفظ ببقايا جمال.. لا يمكن تحديد لون عينيها الواسعتين اللتين تشبهان بهجة اللقيا.. وصفاء البحر.. امرأة مشمشية.. وجهها لا يحتاج لزينة.. تكفيه الشمس التي تشرق منه.. فرت الكلمات من فمه كالغزلان المذعورة.. ابتسم حين ذكر قصيدة الشاعرة سعاد الصباح التي تقول: لماذا الرجل الشرقي ينسي/ حين يلقي امرأة/ نصف الكلام؟ انتزعته من سكونه وهي تلقي بين يديه بشكواها.. متظلمة من تعسف مدير المدرسة في تعامله معها.. منذ أن تسلم إدارة الشئون القانونية.. لم يلتق بامرأة تخبئ في عيونها أرقا ودموعا.. تكابر رافضة الهطول.. طلب منها الجلوس والاستماع إليها.. قبل النظر في شكواها المكتوبة.. لدي مدير المدرسة عجز في هيئة التدريس.. أضاف لها حصتين زائدتين في جدولها الأسبوعي.. وهو ما رآه مناسبا لا يرقي إلي التعسف ولا الشكوي.. يتحدث إليها بلغة هامسة.. محافظا علي ثبات الكأس.. وقت الزلزال الذي أصابه منذ أن دخلت الأربعينية مكتبه.. التي اكتشفت وهو يقشر لها برتقالة الحياة.. أن بها شيئا غير الملوحة التي استشعرتها طوال حياتها.. مزقت الشكوي.. بين عدوي ضحكاته التي تفاعلت معها.. يطلب منها موعدا لاحتساء فنجان شاي معها.. بعد أن عرف أنها أرملة وحيدة.. وافقته وتبادلا أرقام الهاتف.. ما أشقي التعب حين يلحق بالروح.. ويجثم فوقها وينشب مخالبه فيها.. كان لابد أن يهاتفها ويلحق بها.. فهي ليست مجرد امرأة فحسب.. بل امرأة وحقبة عمر.. لملم أحاسيسه.. وضمد جراحاته ومشاعره المتناثرة فوق أسفلت الطريق.. لابد له من هدم أسوار العتمة وهو يمتطي صهوة الخمسين.. القادم قليل لا يتساوي مع ما ولي وانقضي.. استطاعت في أول لقاء يجمعهما.. أن تفك شفرات قلبه.. وأن تفجر صمته المتواطئ.. وتبدد خوفه من الزواج.. الألم يطوف بالبيوت الخالية من امرأة ويعشش في أركانه.. هكذا حدثته عيناها الضاحكتان الطيبتان.. المصائر لا يصنعها أحد بإرادته.. لولا الشكوي ما التقيا.. استكانت روحه وهدأت.. بعد أن فرغت أقداح الشاي.. لم تفعل فيه سنوات العمر الشيء الكثير.. ما عدا الذوائب التي ابيضت قليلا.. وكأن زهور الفل زرعت فيها.. لديها الكثير من الحكايات التي لم ترو بعد.. أشار للحديقة التي تبعد قليلا عن المقهي.. أن هناك من يراها متربة.. أزهارها ذابلة.. وأشجارها عارية حزينة.. طرقها مرصوفة بالأسفلت.. وهناك من يراها ناضرة الأزهار.. أشجارها تفيض بالثمر.. طرقها مرصوفة بأصص الزرع التي تسر النظر.. نظرتنا للشيء الواحد تختلف.. الجمال بداخلنا.. والحياة دون حب ليست مميزة.. كأوراق يابسة تكنسها رياح الأيام.. قررا أن يستمسكا بلحظة الإيناس التي غمرتهما.. فالأعمال قصيرة كالزهور.. ما تلبث أن تذبل.. وأن يتزوجا.. لأول مرة تتذوق شايا رائعا.. لا تدري سببه.. لكنه أدرك السبب. كن جميلا تري الوجود جميلا.. حتي الشاي الذي يحتسيه هو الآخر.. كان له مذاق طيب في فمه.. ربما لأنها جواره.. في شقتها ميراثها الوحيد.. استبدلا الأثاث القديم بجديد اختاراه معا.. يتأملها من طرف خفي.. فألقاها جميلة جمالها تقترن فيه الرقة بالأسي.. والدماثة بالحلم.. الزمن يستطيع في واحدة من فضائله الكثيرة أن يشذب الأحداث ويهذبها ويعيد تلوينها بألوان مبهجة طيبة.. نسيم هادئ رائق يتسلل إلي رئتيه.. وهو يستشعر لأول مرة لذة طعام المنزل.. بعد أن تسممت معدته من طعام التيك أواي.. وشكوي القولون.. تداعبه امرأة وهو يتناول قطعة لحم ذات مذاق طيب لم يتناوله من قبل.. يضحك وهي تحاول سبر أغوار ضحكته دون جدوي.. فقد كان مشغولا بتوجيه سؤال لنفسه: عن نوع الطعام الذي هيأته حواء لآدم.. في عشائهما الأول. محمد محمود غدية المحلة الكبري [email protected] رابط دائم :