في أكتوبر من كل عام تأتي نفحات طيبة من تاريخ هذا البلد المظلوم, مصحوبة بمشاعر خاصة لكل من عاصرها, وتأملات تتوغل في التاريخ القديم والحديث, تتوالي الصور وتتزاحم المشاهد, اختار من بينها ثلاثة. * المشهد الأول يقودني إلي التفكر في معركة قادش التي جرت منذ نحو اثنين وثلاثين قرنا ومقارنتها بمعركة العبور في سبعينيات القرن الماضي, المفارقة والمطابقة التاريخية مثيرة للتأمل, ففي قادش تعرض المصريون لخدعة أودت بنصف الجيش, وأبرم فرعون مصر) أيثارا للسلامة( معاهدة تهادن فيها مع الحيثيين, إلا أنه عاد إلي بلاده ليعلن انتصارا ساحقا سجله علي جدران المعابد ونقوش المسلات, وحين تتأمل لوحة أنشودة قادش في معابد أبو سبل تتساءل هل يمكن للصور والنقوش أن تغير وقائع التاريخ. وبعد قرون عديدة يتكرر المشهد, مع اختلاف بسيط أو شديد, فتحارب مصر في أكتوبر, وتنتهي الحرب بانتصار وعبور عربي ورد إسرائيلي, لتتكرر معركة قادش( بالمقلوب), وكأنها حرب متعادلة تنتهي بتوقيع اتفاقية سلام فهل تتوه الحقيقة منا في صخب الموسيقي العسكرية والاحتفالات المتصلة بالنصر العظيم, أليس الأجدر أن نتدارس كيف صنع الجندي المصري الشجاع معجزة العبور, وكيف أصيب النصر بثغرة, فنتذكر أمجادنا وأخطاءنا فإن الذكري تنفع المؤمنين. * المشهد الثاني يتمثل في عجزنا عن شرح قضيتنا لنصل إلي قلوب مستمعينا وعقولهم, لماذا حاربنا ولماذا نحارب, هل المشكلة لدينا في القضية؟ وإذا كانت لدينا قضية, فما هي القضية, وما هي جذورها التاريخية, وما حدودها الوطنية والاقليمية والعربية, هل المشكلة في الوسيلة؟ هل المشكلة في البيان؟ هل المشكلة في القيادة؟ هل يحس حكامنا بالقضية بعيدا عن تأمين كراسيهم وعروشهم؟ وهل قايضوا الحق والحقوق بحماية أركان حكمهم؟ في الجانب الآخر عمل العدو وخطط منذ ما يزيد علي قرن من الزمان, فاغتصب الوطن الفلسطيني وجعله دولة يهودية, وعمل علي تصوير المظلوم وكأنه الظالم, بل لا حق كل من يدافع عن المظلوم, وكافأ كل من أشاد بالظالم, وعمل علي توسيع الدائرة ليصم العرب كلهم بل والمسلمين أجمعين بالتعصب والإرهاب, ويقيني أنه خطط لزرع الفتن في الوطن الواحد, ينقل المعركة إلي داخل الأوطان وبين أبنائها, ليحول العدو الماكر أنظار العالم عن جرائمه الإنسانية وممارساته العنصرية, ويبقي السؤال محيرا هل نستطيع أن نستوعب ونتصور ونخطط وننفذ إعلاما يصل للعقول والقلوب, ألا يجدر أن نذكر أنفسنا والعالم بأن هناك أرضا سلبت ووطنا اغتصب وشعبا تشرد, لعل الذكري تنفعنا وتنفع غيرنا إن كانوا مؤمنين. * المشهد الثالث يتكرر في شهر رمضان من كل عام وهو تقليد أحرص عليه وأعتز به, يأتي بنسمات عطرة, وأستعيد معه رحيق الذكريات لفترة غالية من العمر, نلتقي نحن, مقاتلي الدفاع الجوي من دفعة الضباط المكلفين, حيث تتوالي الذكريات عن فترة الأساس والإعداد والتدريب بكلية الدفاع الجوي, وتوزيعنا علي كتائب الصواريخ علي الجبهة وفي العمق, وحرب الاستنزاف وملحمة الصمود التي تحتاج إلي التسجيل والتوثيق لنتذكر كيف ارتدع العدو وما عاد يعربد في سماء الوطن. الغريب اننا كنا وقتها نعلم اننا نحارب بصواريخ تنتمي إلي جيل الحرب العالمية الثانية, فالقوة غير متكافئة, وكأنك تحارب بالعصا من يملك سيفا, وحين جاءت اللحظة الحاسمة حدثت المعجزة, فلقد انتصرت العصا المدعومة بالعزيمة والتضحية علي السيف الجبان الذي يضرب من بعيد, وانتصر الساعون إلي الموت علي هؤلاء الحريصين علي الحياة. نتذكر حكايات الفداء لأبطال بذلوا أرواحهم, فنسترجع حكايات التضحية والبطولة والشجن والألم, ونري من فقدوا أجزاء من أجسادهم, ولكنهم مازالوا يمارسون الحياة بقوة وشموخ. نفس الحكايات نسمعها للمرة العشرين فتختلج مشاعرنا وكأننا نسمعها لأول مرة, نغسل قلوبنا ونتجاوز قسوة الذكريات بطرائف لمواقف تولد من رحم الأزمة, ونضحك ملء القلوب. نذكر قادتنا الأولين بكل الإجلال, حلمي عفيفي قائد مدرسة المدفعية المضادة للطائرات حين استقبلنا وقائد قوات الدفاع الجوي فيما بعد, ومصطفي الشاذلي قائد فرع الصواريخ حين استقبلنا وقائد الدفاع الجوي فيما بعد, وفاروق طوبار أركان حرب فرع الصواريخ وقتها. أشعر في كل مرة نلتقي أن توثيق تلك الحكايات واجب مقدس, خاصة حين أنظر إلي هؤلاء الذين خاضوا الحرب شبابا وقد أصبحوا كهولا, وقد بدأوا في الرحيل عن دنيانا, أو هم يستعدون, فهل تموت معهم حكايات القتال, وتدفن معهم مشاهد البطولة؟ وأتساءل متي نوثق توثيقا دقيقا شاملا كاملا دقيقا تلك اللحظة الغالية في عمر الوطن؟ وعلي من تقع مسئولية التوثيق؟ أعلم علم اليقين أن الفريق حلمي عفيفي كتب مذكراته وتركها لأسرته ومن ائتمنهم عليها شاهدا علي بناء حائط الصمود وجيش العبور, وجهها إلي أبنائه من جنود الدفاع الجوي, فكيف نستفيد من هذه الثروة التاريخية الوثائقية. ولكن يبقي السؤال هل التوثيق جزء من ثقافتنا المؤسسية وهل التسجيل الأمين جزء من عقيدتنا الحكومية, وكيف نستثمر هذه الذكري لتنفعنا إن كنا حقا مؤمنين؟ جامعة الإسكندرية رابط دائم :