ثمة غصة موغلة في الداخل.. لم تستطع كسر أغلال الوحدة.. القدم عاجزة عن خرق المسافات.. والابتعاد عن الحواجز الأسمنتية المقامة دون رغبة منا.. المسافات تتسع.. تقودنا إلي بساتين التعب وحقول المواجع.. ما أبشع أن تخلو الحياة من لمسة غصن رطيب وزهرة يانعة.. وما أقساها حين تتحول الخضرة النضرة الي أوراق يابسة صفراء.. تكنسها رياح الأيام.. ترك بعض أحلامه في محطات السفر الموجعة.. وقليل من الجنون علي نوافذ القطارات المقذوفة من فوهة مدفع.. أخذته بلاد الغربة غصنا رطيبا.. وأعادته عودا جافا لايبين.. يسهل كسره.. بعد أن طحنته الوحدة والأيام وألقت به فوق مقعد قديم في مقهي فقير.. لايعتني بنظافة أقداح الشاي.. ولايرفع رماد السجائر المحترقة وبقايا الطعام.. من فوق الطاولات التي تشبه المقهي في تهالكها.. أهلا بالخمسيني.. قالها الرجل الذي جاء بكرسي من زاوية مهملة.. ليشاركه طاولته دون استئذان.. يذكره بعمره الذي اجتهد في إخفائه.. لم يناده باسمه.. لم يسبق له أن رآه من قبل.. أخذ ينبش في تلافيف الذاكرة.. عله يهتدي إليه دون فائدة.. يسأله عن سنوات الغربة.. وحجم الثروة التي جمعها.. وكيف يمكنه وهو الخبير بأحوال السوق أن يوظف أمواله في مشروعات لاتعرف الخسارة.. ويضمن له أرباحا ضعف ماتقدمه البنوك.. إنه أمام لص محترف.. يجيد الكلام.. ويعيده الي زمن لصوص مؤسسات الخير المذعومة.. وكشوف البركة.. لقد تبددت ثروته في البورصة.. وهي اكثر شياكة.. تضيع فيها مدخراتك.. دون شكوي.. فأنت من ذهبت وقامرت وخسرت.. لم يعد يملك سوي تلك الشقة التي اشتراها منذ سنوات عشر.. نظر الخمسيني الي ساعته.. معتذرا لضرورة انصرافه المفاجيء بعد أن تذكر موعدا مهما.. بين دهشة الرجل وإستيائه.. شعر بالراحة حين ابتعد عن المقهي واللص.. قادته قدماه الي حيث البدايات البكر الأولي المتعطشة المرتجفة المشاعر والأحلام.. أين ذهب بيت محبوبته..؟ لقد تحول إلي برج سكني يزيد علي العشرة طوابق.. يسأل عن أصحاب البيت القديم.. بين دهشة البعض وسخرية آخرين.. اجتاحه الشتاء في فصل مجدب لايمطر.. والوقت ربيع.. عاكسته الطبيعة حين وجد عواطف الناس والأهل والأحباب.. قد شحت وقد ساد القبح.. استسلم للأحلام الموشاة بألوان رمادية.. ما الذي يجعل الحزن عاجزا عن الرحيل.. في سمعه زنابير لاتهدأ.. وفي حدقتيه آسي عميق.. وفي فمه ملوحة الأيام القديمة.. وطعم الرماد والغياب. محمد محمود غدية/ المحلة الكبري [email protected]