الصحافة المصرية, أو الإعلام المصري في العموم علي كل أشكاله وألوانه. سوف يكون له يد طولي في المآل الذي تصل إليه مصر من تقدم أو تراجع, ازدهار أو انكسار, مدنية أو تخلف.وهكذا كانت الحال منذ طبعت أولي الصحف المصرية, والآن فإن الأدوات زادت علي ما كانت عليه الحال في أي وقت مضي, لأنها تصل إلي الفرد في كل لحظة من لحظات النهار والليل أيضا, وهي تصل له صوتا وصورة. وخلال السنوات القليلة الماضية أصبحت الصحافة التليفزيونية جزءا من المساء المصري لأن الأخبار والتعليق عليها والاختلاف حولها أصبحت مثيرة ودرامية وفيها من المفاجآت ما يكفي. وفي وقت من الأوقات كانت هناك شكوي أن المشاهدين المصريين انصرفوا إلي التليفزيونات العربية والأجنبية, ولكن المؤكد أن ذلك لم يعد هو الواقع الآن حيث بات الإعلام المصري قادرا علي تقديم وجبة لا تستطيع التليفزيونات العربية الأخري تقديمها حيث لا يوجد مجتمع عربي آخر لديه هذه الدرجة من التعقيد الاقتصادي والاجتماعي كما هي الحال في مصر. المهم أنه مع هذه الدرجة من التأثير لابد أن تظهر درجة أعلي من المسئولية والتقدير السياسي والاجتماعي لما يقال ويذاع; والطريق إلي ذلك معروف وهو اتباع أعلي درجات المهنية اي القواعد المتعارف عليها في مهنة الصحافة والتي مثلها مثل كل المهن الأخري استقرت علي أسس أخلاقية وموضوعية لا يجوز تجاوزها. ومن أهم هذه القواعد التعامل مع الموضوعات المختلفة بالاحتراف المطلوب حيث يتم نقل الأخبار, أو تقرير الحوادث بالدقة المطلوبة. ومن تجارب شخصية بحتة وجدت أن كل ما تنشره الصحف المصرية عما أقول به سواء كان في ندوة أو برنامج تليفزيوني لا يمت إلي ما قلته بصلة حيث الصحفي لا يمتلك جهاز تسجيل يسجل به ما أقول, كما أنه لا يسجل كلماتي ساعة النطق بها كتابة ومن ثم اعتمد علي الذاكرة التي تخيب الظن في معظم الأحيان. آخر المرات جرت معي في صالون الأوبرا الذي انعقد في مسرح سيد درويش في الإسكندرية برعاية الزميل أسامة هيكل حيث قلت في محاضرة أن هناك صورتين شائعتين عن مصر في الساحة الإعلامية والفكرية, واحدة تراها جامدة, والأخري تراها علي وشك الانفجار. لاحظ هنا أنني أتكلم عن صورة وهو ما يعني إدراكا ذهنيا لآخرين, وعن أمر شائع أي ينتمي لجماعة أو أكثر من المواطنين, وأنني بعد ذلك سجلت اختلافي مع كليهما بتحليل آخر. المهم هنا أن الزميل الذي قام بتغطية الموضوع للأهرام اعتبر الصورة الشائعة التي رفضتها هي ما أتبناه أنا شخصيا وذلك لأنه لم يسجل الحديث, وإذا كان قد سجله فإنه لم يرجع إلي التسجيل, والمرجح أنه لم يكن يركز جيدا في موضوع المحاضرة فنقل للقارئ عنها تصورا مختلفا عما دار فيها. ولكن ذلك كله من الممكن ألا يكون مقصودا وفيه قدر من الإرهاق أو الإخفاق, ولكن المخالفة المهنية الكبيرة تأتي من قلب الأخبار رأسا علي عقب عن عمد ربما. المثال علي ذلك هو ما نشرته صحيفة المصري اليوم الغراء يوم28 مارس الماضي حيث جاء في واحد من عناوينها الرئيسية: واشنطن تحذر رجال الأعمال الأمريكيين من الاستثمار في مصر بسبب انتشار الفساد; وتقرير الوزارة: القانون لا يطبق علي أصحاب الحصانات, والقضايا المكشوفة تحركها دوافع سياسية. التقرير منقول كما تقول الصحيفة عن وزارة التجارة الأمريكية وموجه إلي رجال الأعمال الأمريكيين الراغبين في الاستثمار في مصر. إلي هنا ولا بأس من متابعة ما يقوله الآخرون عنا, ولكن الدقة كانت تقتضي الإشارة إلي أن الجهة التي أصدرت التقرير هي وزارة الخارجية الأمريكية وليست التجارة وإدارة العلاقات التجارية الخارجية فيها. والأهم أن التقرير لا يتضمن أي تحذير للمستثمرين الأمريكيين من الاستثمار في مصر, وإنما يشير إلي الإدارات والهيئات المصرية المختلفة التي تعمل علي مكافحة الفساد, والعقوبات التي يضعها القانون المصري علي جرائم الفساد, والاتفاقيات الدولية التي وقعتها مصر في هذا المجال, ويعرض للتقارير الدولية المختلفة ورؤيتها لمكانة مصر في موضوع الفساد. المرة الوحيدة التي أشار فيها التقرير لرأي المستثمرين الأمريكيين جاءت علي الوجه الذي نشرته المصري اليوم في الفقرة الأخيرة من تقريرها ذي العنوان الصارخ حيث ذكر أنه رغم تقرير المستثمرين الأمريكيين عن وجود فساد بين الموظفين في المستويات الدنيا, فإن الفساد ليس عقبة أمام الاستثمار الأجنبي. هنا فإن هذه الفقرة الخاتمة في تقرير الصحيفة تتناقض مع عنوانها, وهو في النهاية جوهر التقرير الأمريكي الذي لا يتضمن تحذيرا من أي نوع. نموذج آخر للمهنية المفقودة جاء في صحيفة الشروق الغراء حيث جاء فيها يوم28 مارس الماضي عنوان رئيسي علي ثمانية أعمدة يقول: جمال مبارك حصل علي مباركة رئيسين أمريكيين. والعنوان الفرعي: خبير أمريكي ل الشروق: واشنطن تقبل بالتوريث رغم تعارضه مع القيم الأمريكية. لاحظ هنا أن تعريضا جري بمواطن وسياسي مصري, بأنه حصل علي مباركة رؤساء أمريكيين للحصول علي منصب الرئيس. التهمة هنا ترقي بسهولة إلي اتهامات بجرائم عظمي حيث يتم التباحث مع رئيس دولة أجنبية في أمر يخص تماما السيادة المصرية. ولاحظ أيضا أن العنوان يغمز في قناة دولة عظمي بأنها تقبل ذلك معنا رغم تعارضه مع القيم الأمريكية. القصة هكذا خطيرة للغاية, وفي العموم فإن قواعد المهنة تقضي بألا تضع عنوانا رئيسا إلا لأمر خطير. بعد ذلك تسقط المهنية تماما, فالخبر مستند إلي مصدر أمريكي غير حكومي أو رسمي أو له مصداقية عالية, وهو الدكتور جيسون برونلي في جامعة تكساس أوستن الذي لا يعده أحد من كبار العلماء عن مصر أو الشرق الأوسط, حيث لا يزيد علي كونه واحدا من مئات الباحثين الذين يعملون في جامعات متواضعة القيمة. وليس معني ذلك بالطبع أنه لا يجب علي الشروق أن تنشر رأي الباحث الأمريكي, ولكن أن تنشره في عناوينها الرئيسية في الصفحة الأولي, وبصورة تبدو كما لو كانت تصديقا لما قال, وهو غير وثيق الصلة بأي من الدوائر الحاكمة في الولاياتالمتحدة فإن ذلك يعد تجاوزا لكل قواعد المهنية التي تعرفها الصحافة. هذه الأمثلة ليس الهدف منها تسجيل مواقف علي صحف غراء وشقيقة, وإنما هي دعوة لإدراك المدي والقدرة التي أصبحت الصحافة بأنواعها المختلفة مؤثرة في الرأي العام وما يحدث فيه وخاصة فيما يتعلق بالمصادر الأجنبية والتقارير الدولية التي ينبغي الاطلاع عليها, وعرض ما جاء فيها علي الرأي العام, ودعوة لكي يحدث ذلك بموضوعية كاملة وحياد شامل لأن القضية ليست توجيه الرأي العام إلي اتجاه بعينه وإنما تزويد المواطن بالمعلومات والتحليلات لكي تكون لديه القدرة علي الحكم والتقدير. وفي بعض الأحيان فإن كثيرا من التحليلات والتقديرات الخارجية لا تخلو من قصد في تشكيل البيئة الداخلية المصرية في اتجاهات بعينها. وعلي سبيل المثال طلب الصحفي الأمريكي جاشوا هامر إجراء حديث مع السيد جمال مبارك في شهر أكتوبر الماضي لصحيفة النيويوركر المعروفة. ولكن الحديث لم ينشر لأسباب لا يعرفها أحد حتي نشر في الخامس من أبريل الجاري مقال بعنوان المتنافسان: هل أصبح سباق الرئاسة في مصر مباراة حقيقية؟ تضمن ما يبدو مقارنة ومقارعة بين لقاء أجراه الصحفي مع الدكتور محمد البرادعي ولقاء السيد جمال مبارك. لاحظ هنا أن الصحفي الأمريكي أجري الحديثين في زمنين مختلفين, وهو لم يخطر الثاني بأن الحديث سوف يستخدم في إجراء ما يبدو وكأنه مناظرة بين طرفين, كما أنه وضع الحديثين ضمن بيئة مصرية سلبية تماما لا يوجد عليها اختلاف أنها تميل لصالح طرف وحيد هو الدكتور البرادعي الذي لم تتم مواجهته بأي أسئلة جادة وحقيقية. ولكن ذلك هو مجرد مقال في صحيفة أمريكية, أما ما يهم فهو المقالات والمناظرات اليومية التي تجري في مصر. وبصراحة لقد بات الإعلام المصري حزبا سياسيا رئيسيا في الساحة المصرية, ومن ثم فإن الاحتراف والمهنية مطلوبان أكثر من أي وقت مضي!. التهمة هنا ترقي بسهولة إلي اتهامات بجرائم عظمي حيث يتم التباحث مع رئيس دولة أجنبية في أمر يخص تماما السيادة المصرية. ولاحظ أيضا أن العنوان يغمز في قناة دولة عظمي بأنها تقبل ذلك معنا رغم تعارضه مع القيم الأمريكيةهذه الأمثلة ليس الهدف منها تسجيل مواقف علي صحف غراء وشقيقة, وإنما هي دعوة لإدراك المدي والقدرة التي أصبحت الصحافة بأنواعها المختلفة مؤثرة في الرأي العام [email protected]