في كتابه المثير ماذا حدث للمصريين؟ الصادر عن دار الهلال في1998 م, رصد الكاتب والمفكر الدكتور جلال أمين بعضا من التحولات التي عايشها في المجتمع المصري. والتي جرت علي مدي النصف الأخير من القرن الماضي(1945 1995 م) التي شهدها فتي فشابا فرجلا فشيخا, وسجل فيها مشاهداته وملاحظاته وتحليلاته لأحوال الأسرة والمجتمع المصري. اتخذ الكاتب مؤشرات مبتكرة وطريفة استوحاها من محيطه المباشر وأسرته القريبة, ومعايشته للمجتمع, منها المرأة, وسادة وخدم, والسينما, وتابع الحراك الاجتماعي لطبقات وشخوص المجتمع من خلال المؤشرات, فتابع تطور وضع المرأة المصرية في المجتمع استدلالا بأدوارها في أجيال ثلاثة متعاقبة من أسرته, والدته وزوجته وابنته, فدور الأم اقتصر علي التفاني في العناية بالمنزل ورعاية أبنائها( الثمانية فيما أذكر) دون تأفف أو تبرم, بينما في الجيل التالي فرضت الزوجة العاملة نظاما دقيقا داخل المنزل, حدد المواعيد ووزع الواجبات بين أفراد الأسرة للمعاونة في شئون المنزل, أما الجيل الثالث, فتدير الابنة التي تقوم بالتدريس بالجامعة حياة الأسرة, فهي محورها الرابط فيما بين توصيل أولادها للمدرسة, ومتابعة دروسهم وواجباتهم المدرسية, والاهتمام بالزوج, ورعاية شئون المنزل, فضلا عن مهام وظيفتها الجامعية والمشاركة في العمل العام. أما المؤشر الثاني فكانت العلاقة بين السادة والخدم والتي تحولت بعد انتهاء عصر العبيد في مصر وورود البنات من الريف للعيش مع أسرة من المدينة وخدمتها في مقابل مأكلها ومشربها وأجر زهيد تتقاضاه أسرة الفتاة التي لم تكن قادرة علي إعاشتها أصلا, ليسجل الكاتب صورة مديرة المنزل التي تأتي لعدد محدود من الساعات, ويزيد أجر ساعتها عن أجر مخدومتها الإبنة المدرسة بالجامعة!! أما عن السينما فيرصد الكاتب صورة البطل في الأفلام التي كانت تحض علي الشهامة والنبل والفضيلة, وأعمال الكوميديا التي تتناول مشاكل المجتمع بحساسية ورقي, وتحولت السينما حين تغيرت المفاهيم والقيم لمشاهد العنف وغيرها وأصبحت الأفلام الناجحة هي التي تسخر من قيم المجتمع. وعزا الكاتب التحولات التي جرت في تلك الحقبة إلي الحراك الاجتماعية فأصبحت المرأة وزيرة وسفيرة ونائبة برلمانية, وتغيرت المواقع النسبية لطبقات المجتمع صعودا وهبوطا في السلم الاجتماعي, وتآكلت مكانة طبقة ملاك الأرض وأصحاب المصانع بعد صدور القوانين الاشتراكية, وأتاح انتشار التعليم الصعود لأبناء الطبقات الكادحة, وتحركت العمالة الحرفية صعودا في السلم الاجتماعي بسفرها إلي الخليج وتزايد الطلب علي خدماتها, وتبنت أنماطا جديدة عليها من الاستهلاك لتحاكي الطبقات الأعلي, وتغير الذوق العام لدي صناع السينما ومشاهديها, ولا تدري أيهم أثر في أيهم. لا أدري لماذا ألح هذا الكتاب علي خاطري مؤخرا, فلقد تأملت ما طرأ من تغير علي مجتمعنا في الحقبة التي تلت الفترة التي اختصها الكاتب بدراسته, ولعل التغير الذي حدث للمصريين في الحقبة الأخيرة فيما بين1995 2010 م, يمثل تحولا أكبروأشمل وأخطر مما رصده الكاتب في دراسته, ناهيك عما جري في مصر2011 م. وفي ظني أن أهم التحولات الحديثة كانت في منظومة القيم لدي عامة الناس, ففي عام2009 م أجرت لجنة حكومية تضم خبراء وباحثين في علم النفس والاجتماع دراسة ميدانية مكثفة استغرقت عاما بعنوان الأطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين واختياراتهم دراسة لقيم النزاهة والشفافية والفساد وشملت عينة مجتمعية منتقاة بعناية. ولعل أخطر ما عرضته الدراسة هو اختلال القيم بين الشباب كنتيجة طبيعية لا نحسار دور الدولة وشيوع الفساد والتسيب وتفكك الأسرة والهجرة إلي دول النفط, فضلا عن ضعف الانتماء للوطن وانتشار اللامبالاة بالقضايا الكبري. وسادت القيم التي تنادي بالكسب السريع علي حساب العمل المنتج, وصار الثراء هو القيمة, إلا أن أهم مظاهر الفحش تمثلت في مصدر الثراء نفسه, فأصبح الاستيلاء علي أموال الدولة هو أهم مصادر الثراء في مصر, فنهبت أصول الدولة الرخوة من أموال للبنوك استبيحت للإقراض أو أراض للوطن تعرضت للبيع والتخصيص, أو شركات عامة عرضت للخصخصة. وتحول الحراك المجتمعي إلي صعود طبقة رجال الأعمال والمسئولين الحكوميين, ورجال الشرطة والقضاء. التحول المجتمعي في تلك الفترة يشير إلي أن الأغنياء يزدادون ثراء والثراء يزداد فحشا, بينما أغلقت كل الأبواب أمام الفقراء من المتعلمين وغير المتعلمين علي السواء, فغاب العدل وتخلخلت منظومة القيم, ويكفي أن تعلم أن نسبة75% من الشباب يرغبون في تقلد وظائف الحكومة لمرتبها الكبير والمكانة الاجتماعية( لم يذكر أحد خدمة الدولة), ولكن المذهل حقا أن يفصح5% من الشباب عن رغبتهم في الوظيفة للتربح منها وكأنهم يرون الرشوة وقد أصبحت عملا مشروعا, ولا يخجلون من ذكره. الطريق أمامنا طويل لإعادة بناء الشخصية المصرية التي ثارت علي الفساد والظلم الاجتماعي, يحتاج الشباب إلي قدوة في معلم يغرس القيم الأخلاقية والعلمية وأستاذ جامعي يتفاني في تعليم الطلاب ورعايتهم, وضابط شرطة يحترم الناس ويخدمهم, وقاض يحكم بالعدل والصدق, ووزير يخطط برؤية تبغي صالح الوطن, ورئيس لكل المصريين, يبكي في الحرم خاشعا خاشيا أن يكون من الظالمين. جامعة الإسكندرية