عقب ثورة يناير, ظهرت دعوات بإعادة هيكلة وزارة الداخلية وخاصة بعد الانفلات الأمني, وتخاذل جهاز الشرطة, وقد تعالت الأصوات بحدة أكبر لتطهير وإعادة هيكلة وزارة الداخلية بعد مأساة بورسعيد والتقصير الأمني الواضح. وتزامن ذلك مع أحداث محيط وزارة الداخلية في الأيام الماضية, وقد استجابت عدة جهات وطنية لدعوات إعادة الهيكلة من جانب المجلس الاستشاري, ثم الاهتمام الواضح لمجلس الشعب ممثلا في نوابه ولجانه ورئيسه وتكليف لجنة الدفاع والأمن القومي, بإعداد مشروع لإعادة هيكلة وزارة الداخلية, وقد تابعت خلال الأسبوع الماضي ما ورد باجهزة الإعلام من اجتهادات وأفكار ولكن الصوت الأعلي كان لمن يطلقون علي أنفسهم خبراء استراتيجيين, ولكن هناك قصورا في طرحهم لأنهم يتحدثون من واقع خبرة أمنية في غيبة الجوانب الخاصة بمفاهيم التنظيم العلمي وممارساته, وأقدم هذه الرؤية النابعة من العلوم الإدارية إسهاما مني كمواطن مصري, وخبير في التطوير التنظيمي حريص علي أن يكون لدي مصر كيان مؤسسي شرطي عصري, يعمل علي تحقيق سلامة المواطن وأمنه في ظل سيادة القانون ومراعاة حقوق الانسان. والتصور الذي أطرحه, لا يركز علي إعادة هيكلة وزارة الداخلية فقط, وإنما تكون هذه الهيكلة في اطار مشروع متكامل لتطوير مؤسسي شامل لوزارة الداخلية من خلال التركيز علي ثلاثة جوانب هي: الجانب التنظيمي( إعادة الهيكلة) والتي تعني مراجعة وإعادة تصميم الترتيبات الرسمية للوزارة وتحديثها وتبسيطها, ثم الجانب البشري, أي كل ما يتعلق بإدارة الموارد البشرية من تحديد الاحتياجات البشرية والتوظيف, ونظم الرواتب والحوافز والتدريب والتنمية, ثم تقويم أداء العاملين, والجانب الثالث هو ما يتعلق بأساليب العمل, أي الجانب التقني الحرفي في العمل الأمني ويتضمن البعد الماديHardware, والبعد المعنويSoftware الخاص بثقافة وعقيدة أفراد وقيادات أجهزة الوزارة. وتأتي هذه الجوانب الثلاثة ضمن برنامج مخطط يحقق طفرة نوعية في الأداء الشرطي وتبني جسورا من الثقة المتبادلة بين المواطن وجهاز الشرطة.وللتبسيط علي القارئ فإن التطوير المنشود يقوم ببساطة علي أ) هيكل تنظيمي مرن وعصري, وموارد بشرية عالية الجودة تتوافق مع هذا الهيكل وتكون لديها أدوات وقيم العمل الأمني النابعة من حقوق الانسان والمواطنة. وبمراجعة الهيكل التنظيمي الحالي لوزارة الداخلية يمكن القول انه هيكل متضخم ومترهل ويتسم بالتعقيد رأسيا وأفقيا, وهو هيكل تقليدي جامد ومتشعب يشمل أنشطة ومجالات كثيرة تشمل السجون والأحوال المدنية والأمن العام وأمن المرافق والمواني, ورعاية الأحداث, والتأمينات والمعاشات, والمرور, وشئون الأفراد, وشئون الضباط, والتدريب, وتصاريح العمل, والجوازات والجنسية, والتهرب الضريبي, وتنفيذ الأحكام, ومكافحة جرائم الأموال العامة, والشئون المالية والادارية, وأكاديمية الشرطة, ومكافحة المخدرات, والحج والعمرة, وجهاز مشروعات الأراضي, والأدلة الجنائية, والأندية والفنادق, والخدمات الطبية, والإعلام والعلاقات, والانتخابات, وجهاز الأمن الوطني. ما هذا التشعب والترهل الذي يستهلك جهود الأفراد والضباط في أنشطة ومهام غير شرطية مثل الاحوال المدنية والجوازات وكذلك تصاريح العمل, وقطاع السجون, بالاضافة الي التكرار والتضارب في بعض الادارات؟, وهذا يعني أنه يمكن فصل بعض الادارت والقطاعات واسنادها لوزارات اخري مثل السجون والانتخابات تضم لوزارة العدل, وتصاريح العمل لوزارة العمل, والحج والعمرة للأوقاف, واقترح كذلك الغاء جهاز الأمن الوطني وأن يتم فصل هيئة الأمن القومي الي جهازين طبقا للمدرسة الغربية في الأمن(مثل وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي في الولاياتالمتحدة وM5 وM6 في بريطانيا بدلا من المدرسة الشرقية, وهذا يعني فصل القسم الداخلي في الأمن القومي, وجعله جهاز أمن داخليا يتولي مكافحة الإرهاب والتجسس داخل مصر وهذا يجنبنا شرور وممارسات جهاز الأمن الوطني القبيحة, ويعالج الازدواجية القائمة حاليا, علي أن يتم توزيع الضباط الصغار وإعادة تأهيلهم للعمل الشرطي والأمن العام. والتطوير المؤسسي المقترح يقوم علي ثلاث مراحل طبقا لنموذج لوين الشهير وهي: الإذابةUnfreezing أي التحلل من النظم والهياكل والممارسات الحالية مع تهيئة العاملين لتقبل التغيير وتقليل المقاومة, وهنا تلزم مراجعة هيكل ونظم وأساليب عمل الداخلية وتقويم أداء الضباط خاصة الكبار ومراجعة مناهج ومقررات اكاديمية الشرطة, ثم مرحلة التدخل وإحداث التغييرChange, وذلك بإعادة الهيكلة بتبسيط الهيكل وتحديثه وفصل الأنشطة غير الشرطية كما أوضحت, وإعداد الوصف الوظيفي, مع وضع خطة استراتيجية للوزارة بصياغة رسالتها وأهدافها وخطط العمل والموازنات, ثم تحديث نظم الموارد البشرية واساليب العمل. وهنا تأتي المرحلة الثالثة وهي تثبيت الوضع الجديد الايجابيRefreezing والخلاصة أن هذه هي الرؤية الإدارية لعملية تطوير شامل في الأجل الطويل, ولكن المتداول في الصحافة والفضائيات ليس الا اجراءات آنية لمعالجة القصور الأمني الراهن مع تطهير الوزارة, ولا يرقي الي تغيير جذري منشود, وهنا تأتي مسئولية الحكومة ومجلس الشعب وأولي الأمر في تبني برنامج تطوير وتحديث للمؤسسة الأمنية المصرية. ويتطلب هذا تكوين فريق عمل من خبراء الإدارة والتنظيم وخبراء الأمن والاستراتيجية, وأن يطلع الفريق علي التجارب الرائدة في دول متقدمة مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا, والدول النامية مثل باكستان والهند والبرازيل وجمع بيانات من الوزارة واستطلاع رأي المواطنين والأطراف ذوي العلاقة وتشخيص المشكلات الحالية ثم وضع برنامج للتطوير المؤسسي ومراجعته ثم إصدار القوانين واللوائح والقرارات الإدارية, وهذا البرنامج يمثل مشروعا قوميا يتطلب تضافر كثير من الأجهزة والكفاءات وتعاونها حتي نوفر لمصر مؤسسة أمنية عصرية, وعلي الله قصد السبيل. أستاذ إدارة الموارد البشرية بجامعة حلوان [email protected]