الوديان تصب في أخريات.. والجبال القاتمة تنتزع من المشهد ما قد يشوبه من رائحة الحياة, أصفر ثم أصفر ثم أصفر.. هكذا ترتيب الألوان.. هكذا كل الألوان, هكذا ينقبض قلبك ويضيق صدرك وتتقطع أنفاسك بل ويصيبك الدوار تارة جراء التفكير في بؤس من يعيشون هنا.. وتارة حين تسبح مع متاهات الوديان بحثا عن مخرج من تلك الحالة التي تصيبك حين تذهب إلي هناك.. إلي وادي فئران. وتتوقف سيارتنا عند بيوت الشعر والخوص التي بدت وكأنها زرع مجنون يصارع كل قوانين الطبيعة وقواعد الحياة... ليستقبلنا الشاب يوسف بإبتسامة هادئة وهو يقول.. أهلا بكم في طوي, وادي الفئران, وبحس صحفي وجرأة محاور وحماسة رجل واثق من نفسه وبالعربية الفصحي يقدم لنا يوسف الطالب بالفرقة الثالثة بكلية الإعلام ملخصا تاريخيا عن هذا الوادي وهو يهدينا إلي الداخل قائلا قال الله تعالي عن هذا المكان.. إخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوي, وطوي دلالتها الوديان المطوية التي أحاطتكم طوال طريقكم إلي هنا. ويستكمل يوسف.. سكان هذه الجبال أصلهم من جبال تائه, والحالة التي يبدو عليها الوادي الآن ليست هي حالته الأصلية التي طالما كانت تكتظ بالخير. ولكن لأن فئران جزء من أجزاء سيناء المنسية كان ولابد أن تتحول أرضها إلي معقل للبؤس والشقاء, فبعد العدوان الثلاثي علي مصر كان الاهتمام بمدن القناة مثل بورسعيد وغيرها وفي نكسة1967 اغتصب اليهود هذه الأرض وكانوا يعلمون قيمتها جيدا وخاصة مع كونها بوابة مصر الشرقية وخط الدفاع الأول الذي يجب المرور عليه للدخول إلي قلب المحروسة, وقبل كامب ديفيد قام بدو سيناء بممثلهم سالم الهرش بقتل أحلام اليهود في تدويل سيناء في مؤتمر الحسنة حين أعلنها صريحة أن سيناء أرض مصرية ولا سيادة أو تفاوض عليها أو حديث عنها إلا لجمال عبد الناصر. وبعد أن خرج العدو من سيناء اختار السيناوية أرض مصر التي عانوا عليها مرارة الحرب ودفعوا فاتورتها, ولكن الحكومات المتوالية أصرت علي أن تتعامل مع السيناوية معاملة خاصة فكل موظف يرسلونه إلي هنا يحقنونه بوصايا الحذر من السيناوية بدعوي أنهم تعاملوا مع اليهود, ومن هنا جاءت الفرقة فأصبح هناك فلاحون وبدو وصعايدة. ويستكمل يوسف ويجب ألا ننسي أن العدو قبل أن يترك أرض الوطن كان قد أحضر تقاوي المخدرات, ومع إنعدام فرص العمل والتنمية باتت سيناء مع نهاية الثمانينيات وكرا لمكتب مكافحة المخدرات فقننوا الفساد والاتجار وكانوا يتفقون مع زارعي المخدرات بأن يقوموا بنزع نصف كمية المزروعات للحصول علي ترقية علي أن يتم اقتسام قيمة النصف الآخر مع زارعيه, أما التعامل الأمني مع البدو غير المنصاعين فقد وصل إلي اعتقال شيخ قبيلة القرارشة واعتقل مع مجموعة من أبناء القبيلة فهدد البدو باللجوء الي المخابرات المصرية. أما بعد الثورة فكان الموقف واضحا فقد حاول البعض تحريض أهل سيناء للخروج في مظاهرات لحماية المخلوع بدعوي إنه مينفعش يتاخد من عندكم, ولكن أهل سيناء رفضوا ذلك لأنهم أيدوا الثورة بل أكدوا أنهم سيكونون في استقبال الثوار بنفق الشهيد أحمد حمدي لحمايتهم. ومع هذه الكلمات كنا قد وصلنا إلي حيث الجلسة العربية مع شيوخ وبدو وادي فئران.. وكان في استقبالنا هناك بالترحاب والابتسامة الكاشفة لآثار التبغ العربي الشيخ عواد, والذي استمرت ابتسامته علي وجهه وهو يقول مرحب بالأهرام, وبعد أول كوب من القهوة العربي.. بادرني هو يا استاذة أنا بدي أعرف.. هي الثورة وقفت علي باب سيناء ليه؟ ليه وصلت لحد القنال وبس؟, فطلبت منه توضيحا لما يقوله فانفجر صائحا نحنا ما لدينا مصانع ولا سياحة ولا مشاريع وحكومة الثورة حتي الآن لم تنظر إلينا ولو بعين الرحمة مما نعانيه, نحنا هون مهملين برغم إننا من أكبر التجمعات البدوية وبنزيد عن علي20 ألف مصري, نحنا بدنا حتي الدواء يا خلق الله بيكفينا إهانة وبدنا الثورة تنولنا الحياة الكريمة. وهنا بادر أحد شباب فئران.. يا شيخ نحنا عندنا مدرسة بلا مدرسين وولادنا راح يصيروا تجار مخدرات أو سلاح إذا ما كان لديهم فرصة للتعليم, وعلي الدولة أن توفر لهم احتياجاتهم إن كانت في المقابل ستحاسبهم علي أخطائهم إن أخطأوا. وهنا قال آخر وكيف ولادنا يتعلموا وأهاليهم مرميين في السجون بتهم باطلة بين مخدرات وسلاح وغيره دون دليل وبالظلم البين؟!, نحنا بدنا حكومة الثورة تعيد النظر في تلك القضايا الملفقة والتي من الطبيعي اثبات عدم صحتها وعاد شيخ القبيلة ليقول والمستشفي أيضا, هل يعقل في منطقة مثل فئران تتدعي الحكومات أنها تسعي لتنميتها أن تحول المستشفي الوحيد بها إلي مركز طبي؟ الأمر الذي ترتب عليه خلو المستشفي من الاطباء وعدم وجود ميزانية له مما يضطرنا الي الذهاب بمرضانا إلي دهب أو شرم وقد تكون حالاتهم حرجة ولا يسعفنا الوقت.. ألسنا بشرا مثل ساكني الدلتا, ألسنا أكثر من دفع فواتير الحرب؟, ألسنا مصريين مثلنا مثلكم راضين قانعين بتراب هذا البلد؟.