مع استمرار حالة انعدام الوزن وفقدان السيطرة علي الأمور, في أعقاب الثورة, تواجه مصر كما تواجه تونس مخاطر اقتصادية رهيبة تنذر بكارثة ربما تصل إلي مرحلة إعلان الإفلاس. إذا استمرت حالة عدم الاستقرار, وإذا وقع المحظور بالسقوط في شباك الديون والاقتراض من المؤسسات المالية الدولية التي نصبت شباكها بالفعل تحت شعار مساعدات.. مساعدات لثورات الربيع العربي. وبينما كان يفترض أن يتحرك بلد كمصر في اتجاه الصعود واحتلال موقع متقدم في عالم النمور الاقتصادية العالمية, بما لها من إمكانات حقيقية, وبما وفرته الثورة من تدمير لخلايا الفساد والإعداد لحزمة تشريعات متطورة, إذا بالأمور تسير في الاتجاه المعاكس ويبدو السقوط في شبكة الديون بمثابة كابوس أقرب إلي التحقق, بما يفتح الباب للعودة إلي ما قبل النقطة صفر, يعني ضياع مكتسبات الثورة وربما الوقوف علي حافة الإفلاس. وحسب أرقام وإحصاءات رسمية, فقد تجاوز الدين العام المحلي بمصر مؤخرا حاجز تريليون جنيه مصري( ما يفوق167 مليار دولار) مع نهاية العام المالي2011/2010 ويضاف إلي الدين العام المحلي نحو34,9 مليار دولار تمثل الدين الخارجي. وليس من شك في أن الوصول إلي هذه المرحلة يعني حرمان الأجيال القادمة من حق التمتع بموارد البلاد التي ستخصص حتما للتعاطي مع أعباء الديون المتراكمة وفوائدها التي لا ترحم. في هذا السياق تجب الإشارة إلي أن صندوق النقد الذي ربما قد تلجأ إليه مصر ليس مؤسسة تنموية ودودة, يعمل من أجل الخير المطلق, فإدارته تأتمر بأمر الخزانة الأمريكية ووزارات مالية الدول الغنية الكبري, كما يقول ريك راودن مؤلف كتاب السياسات المميتة لليبرالية الحديثة. ويري راودن أن أولويات صندوق النقد هي فرض إصلاحات وتغييرات اقتصادية داخل البلاد المقترضة تضع مصلحة المقرضين وأصحاب المال فوق أي اعتبار, حتي لو كانت العدالة الاجتماعية, التي هي أحد أهم مطالب ثورة25 يناير. ويشير إلي أن الصندوق يتبع سياسة وضعها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان ورئيسة الوزراء البريطانية المحافظة مارجريت تاتشر في ثمانينيات القرن الماضي, وكلاهما سعي لمد نفوذ الرأسمالية الغربية. ولضمان نجاح تلك السياسة, فإن الوسيلة الأبرز هي دفع اقتصاديات الدول النامية ومن بينها مصر وتونس نحو تخفيض التضخم, وتقليل العجز بالميزانية ليصبح ذلك هدفا أساسيا لها, بدلا من العمل لخلق تنمية صناعية وتجارية حقيقية. ويضيف راودن لقد تم تلقين تلك الدروس لموظفي حكومة الرئيس المصري السابق حسني مبارك عن طريق المساعدات الفنية والمنشورات والتحليلات الآتية من الصندوق والبنك الدولي, وبالتالي استشري هذا الفكر بين موظفي المالية المصرية وعدد من الوزارات الأخري. وهذه السياسات من شأنها أن تقيد يد الدولة في وضع سياسات مناسبة لظروفها, وتحد من قدرة الدولتين علي وضع الحماية التجارية الكافية لصناعاتهما المحلية, وتحظر عليهما وضع تشريعات خاصة تنظم القطاع المالي الداخلي, إلا باتفاقات خارجية. الأخطر من هذا أن تلك السياسات تدفع إلي مراحل متواترة وسريعة من الخصخصة التي تفاقم البطالة وتدمر أي محاولة للنهوض, من ثم الفشل في خلق قواعد عدة صناعية وتجارية محلية تسمح بالمنافسة الدولية. ويلفت النظر في هذا السياق, إسراع مؤسسات المال الدولية بالتحرك لتكبيل مصر وتونس بالتواطؤ مع رموز للأنظمة السابقة حتي قبل انتخاب حكومة أو برلمان جديدين. وفي هذا السياق أيضا تجب الإشارة إلي تجارب سلبية حفرت بالذاكرة المصرية عن الديون الخارجية منذ عهد إسماعيل باشا, مرورا بأزمة الثمانينيات, وصولا لنكبات اجتماعية سيئة تسبب بها البنك والصندوق الدوليين عبر روشتة برامج ما يسمي بالإصلاح الاقتصادي. مخاطر أعباء الديون ولتوضيح خطورة أعباء الديون, تجب الإشارة إلي عدة نماذج وتجارب وحقائق تكشف جانبا من الكارثة. فمثلا, ارتفعت مديونية مصر الخارجية من1,3 مليار دولار عام1970 إلي14,4 مليار عام1980 وإلي37,9 مليار عام1987. ونتيجة لإعفاء مصر من جزء مهم من ديونها إثر اشتراك الجيش المصري بحرب تحرير الكويت عامي1990 1991, تراجعت المديونية الخارجية إلي27,8 مليار دولار عام1992, ثم عادت وارتفعت إلي31,9 مليار دولار عام2007, وتراجعت إلي مستوي30,6 مليار دولار عام2009. وقد بلغت خدمة الديون الخارجية لمصر كفوائد وأقساط خلال تلك الفترة نحو70 مليار دولار. أما في تونس فقد تطور الدين الخارجي من نصف مليار دولار عام1970 إلي ثلاثة مليارات دولار عام1980 وسبعة مليارات دولار عام1990, وصولا إلي14,8 مليار دولار عام2009. وهذا يعني أن دين تونس الخارجي قد زاد27 ضعفا خلال ال40 سنة الأخيرة, وقد ترتب علي هذه المديونية مبلغ أربعين مليار دولار كخدمة دين خلال هذه المدة كفوائد وأقساط. يضاف إلي هذا أن أي مساعدات جديدة لمصر وتونس ستكون مشروطة بتحقيق إصلاحات علي نمط ليبرالي جديد هو المسئول الأبرز عن تضخم شبكة الفساد وزواج السلطة بالمال. الحل عربي وللخروج من هذا المأزق, تجب الإشارة إلي مقترحات وضعها خبراء في أكثر من مناسبة تبدأ فورا بإدارة الديون وقصر استخدامها بمجالات الاستثمار والإنتاج, حيث تكون إمكانية سداد الديون أكبر وأوفر, بزيادة حجم النشاط الاقتصادي وخلق فرص عمل وتوفير فوائض مالية. كما يتعين علي حكومتي مصر وتونس البحث عن وسائل تمويل للموازنة العامة بدل الاستدانة, ومواجهة الفساد, ووضع جدول متدرج للاستجابة للمطالب الفئوية. وهنا يري الخبير الاقتصادي الأمريكي ريك راودن أن مصر تحتاج بلا شك للتمويل الخارجي لتمر بسلام من مرحلة تأثيرات التغييرات السياسية الأخيرة, لكن هذا التمويل يجب ألا يأتي كما يقول من صندوق النقد الدولي. ويشدد في هذا الصدد أيضا علي أن مصر يمكن أن تلجأ إلي جيرانها بالمنطقة خاصة في الخليج حيث يمكن تأمين تدفق موارد جديدة وضخمة للنقد الأجنبي من مجموعة من البلدان العربية علي رأسها السعودية وقطر سواء في شكل منح أو شراء سندات الحكومة المصرية أو تقديم قرض لتمويل المشروعات الصغيرة بمصر. كما يمكن لمصر وتونس اللجوء لدول ذات اقتصادات صاعدة مثل البرازيل والصين وشرق آسيا لسد احتياجاتها المالية, وتحتفظ لنفسها بالحرية في متابعة استراتيجيات تنمية جادة وحقيقية تنعكس علي مستوي معيشة المواطن العادي.