هناك في بلاد الذهب.. وهنا في أحضان الوطن.. وما بينهما زمان ومكان.. وبقايا من الطمي الغاضب علي بشرة سمراء تكسوها ملامح تعدد الأزمنة.. وطباع تعدد الأماكن.. هناك تداخل غريب.. وامتزاج بلا معالم.. لكثير من نداءات وصرخات خافية.. لمجهول يعبث بجريان النهر وتدفق الحلم وتدفق الآمال.وهنا وطن يئن.. ومواطن يطن.. وبقايا وجع بلا وجيعة وصوت قادم من بعيد ومن قريب تلتقطه الآذان وتجهله الحناجر.. يرفعه صوت دف غريب ويخفضه انين طفل شاخ علي ذكريات الهجرة ووقائع المنفي.. ودواعي البقاء.. وبين سطور وكلمات وحروف الأناشيد تأتيك كلمات الشيخ أحمد منيب: مشتاقين ياناس لبلاد الدهب للبيت لنجع الحبايب.. لبلاد النخيل والخير.. والعود اللي غايب إنها النوبة. حلم للبقاء وأنشودة للصبر ومعزوفة للعشق الإلهي في جنبات الوطن وصوفية الجوار إلي طمي من حب وقطرات ماء تجهل ثمرة خيرها أوشرها أو أبواب سحاب ضاقت تهميشا وهي تقدم الوفاء والحب والاخلاص لأرض الوطن.. وذابت ضياعا وهي تحلم بوطن ما عاد وطنا.. وعطشت وهي في أحضان وينابيع قطرات المطر.. وتاهت بين الأزمنة والامكنة.. إنها النوبة ضياع الشتات.. وحلم العودة نقترب منها تخالط أوجاعها ونحتسي بقايا امالها قبل الثورة.. وبعد الانفجار.. واثناء مخاض المواجهة وقبل استشراف الزمن الآتي تختلط في حبات عرقها طموحات واتهامات ومواجع وقليل من الصدق والكذب. نقترب منها.. من طيبة أهلها من صدق قريبها وحزن بعيدها نرصدها. نعيش احلامها بالحقيقة ودون مزايدات المتاجرين بالحلم والعودة وتفجير الأزمنة والأمكنة.. فقط نغوص في أعماق النوبة. في البداية لابد من الاعتراف بأنه لن يكون طلب الحقوق والإصرار عليها سمة ونهج المصريين في تاريخهم الجديد فالأمر يدعو للاطمئنان علي مستقبل بلد ينطلق من قاعدة رضا جميع أبنائه ورغبتهم في البناء غير أن ثورة أبناء النوبة في جنوب مصر للمطالبة بحقوق يرونها أهملت كثيرا حملت من المخاوف الكثير بين المصريين بعد أن سيطر هاجس الانفصال علي الحديث عن النوبة في تذكير بدارفور السودانية وانفصال جنوب السودان منذ شهور. ورغم تأكيد النوبيين المستمر عدم صحة ما يتردد بشأن مطلبهم بحق العودة بأنه بادرة وخطوة أولي للانفصال وتشديدهم علي أن هذا الحق وما يقترن به من حنين لأرضي الأجداد قبل التهجير الذي حمل ذكريات كثيرة حيث البعد عن مسقط الرأس والحياة إلا أن الهاجس لم يتلاش ولم يجد طريقه للتكذيب. الأهرام المسائي قررت الذهاب إلي النوبة سمراء النيل الغاضبة لاستجلاء الحقيقة علي أرض غالية ارتبطت مع المصريين جميعا بذكريات سعيدة جسدتها أغنيات كثيرة تحكي حكاية السد العالي ذلك المشروع القومي الذي احتمل من أجله المصريون الكثير سواء في البناء واستعداداته أو الحروب وويلاتها حتي تحقق الحلم وغنينا جميعا قولنا هنبني وأدي احنا بنينا السد العالي وكان يعز علينا أن تكون فرحتنا علي حساب حزن أبناء النوبة أو عدم رضاهم عما أخذ منهم. تحركنا من القاهرة حتي أسوان في رحلة استغرقت قرابة الساعة والنصف ولا ندري لماذا كان النظر من أعلي قبيل الهبوط يبحث عن السد العالي وصوت عبدالحليم حافظ يرن في الأذن: قولنا هنبني وأدي احنا بنينا السد العالي؟ لنفيق من حلم الذكريات بقشعريرة أرسلتها فكرة الانفصال عندما عبرت علي الخاطر فجأة ككابوس مزعج وكانت البداية لتحقيق يجيب علي أسئلة أولها: هل الكابوس يمكن أن يراه الواقع؟ وهل يرضي النوبيون بذلك وهم من رفضوا الدعوة السودانية عند بدء التهجير مقابل الكثير من الأموال والاراضي تمسكا بمصريتهم التي دافعوا عنها منذ القدم وحتي ثورة25 يناير2011 عندما أعلنوا تعليق المطالبة بحقوقهم حتي استقرار البلاد وانتخاب رئيس جديد؟ وهل بالفعل هناك أياد تعبث بالقضية النوبية وتتاجر بها من أجل أغراض خبيثة؟.. أسئلة كثيرة كان الحرص علي سماع اجابتها من أبناء النوبة في جنوب مصر شديدا.