يبدو أن النقاش المحتدم في الأوساط السياسية والثقافية المختلفة حول الدستور والانتخابات البرلمانية, وأيهما يسبق الآخر؟, يحكم قطاع التعليم كذلك, وإن كان لايتبدي في نقاش ظاهر علني , وإنما يتحقق فعلا علي أرض الواقع, وفقا لما قرره الإعلان الدستوري, فهل للتعليم دستور, كما لابد أن يكون لكل بلد في الدنيا دستور؟!منذ مايقرب من ثلاثة أشهر, علي وجه التقريب, كان الدكتور أحمد جمال وزير التربية قد دعا الي اجتماع للتفاكر حول عدد من هموم التعليم في مصر, حضره مسئولو القطاعات المختلفة في الوزارة, وكذلك بعض أساتذة التربية وجمع من المعنيين بالأمر.. وعندما أعطيت لي الكلمة ذكرت الوزير الذي نعرف تخصصه في القانون بأن المسألة بالنسبة للتعليم مثلها مثل الدستور بالنسبة للأوطان, فهل يمكن لوطن ان يحسن المسيرة المجتمعية دون ان يتوفر له دستور يحدد معالم الطريق, وجملة المبادئ التي يهتدي بها في تسيير العمل الوطني, وعلاقة المنظمات المجتمعية بعضها ببعض, ومستويات القيادة ومهمة كل منها.. وهكذا؟ وكما ان الدستور يضبط العمل القومي العام, دون ارتباط برؤية وسياسة من يتولي الحكم رئيسا للوزارة, او للجمهورية, كذلك دستور التعليم, هو ملزم لكل من يتولي الشأن التعليمي, مهما طالت او قصرت مدة توزره, وهو الأمر الذي يفتقده قطاع التعليم بشدة, حيث تخضع سياسة التعليم لهوي القائم بالوزارة, حتي ولو برر مايفعل بأنه قد سبق أن عرض السياسة علي مجلس الوزراء الذي اقرها. وزدت في كلمتي علي ذلك بالقول بأن المشروع القومي للتعليم المنشود هو أشبه بالتصميم الذي يضعه خبراء الهندسة المتخصصون, والذي, بناء عليه, يقوم المقاول بتسيير العمل, في جميع المجالات اللازمة لإتمام المشروع, سواء كان بناء جسر, او مؤسسة, أو مشروعا سكنيا, وهكذا وأن البدء بالبناء الفوري دون ضرورة توافر التصميم الهندسي, كان يلائم المباني التي كنا نقوم بها بصورة بدائية لبناء مسكن بسيط, من الحجارة او الطوب اللبن, مثلا, او جسر خشبي فوق ترعة, اما في عصرنا الراهن, حيث المنشآت العملاقة الضخمة, والتكاليف الباهظة, وصور التقدم العلمي والتقني في وسائل البناء ومواده, فلابد لها من التصميم الهندسي أولا. والمسألة لاتخص وزارة التربية والتعليم وحدها, وإنما تخص كذلك وزارة التعليم العالي والتعليم الأزهري, ومن ثم فإن المشروع القومي للتعليم المنشود, أو ما يمكن ان نشبهه بالدستور التعليمي, لابد ان يمتد افقه الي كل مجالات التعليم في مصر, حيث كان الخطأ الفاحش الذي يرتكب هو ان يظهر مشروع رؤية كلية, او سياسة تعليمية بعينها, لكنها, تخص مايقع تحت مسئولية وزارة التربية وحدها, وهذا نظر قاصر, فكل الجهود التي تبذلها كذلك وزارة التعليم العالي, والتعليم الأزهري, تصب في بنية شخصية المواطن المصري. إن الترابط والتكامل بين جوانب وقطاعات التعليم في مصر, فريضة غائبة مع الأسف الشديد, يدفع ثمن هذا الغياب, أبناء الوطن كله, ولم تمتد النظرة المتكاملة الي التعليمين العالي وماقبله الا عندما يكون الوزير جامعا بين الوزارتين, وهو ماحدث بالنسبة للدكتور سرور, ومن قبله لفترة قصيرة د. مصطفي كمال حلمي. ونحن نسلم بأن للتعليم الأزهري طبيعته الخاصة, لكن هذا لا ينبغي أبدا ان يبرر استمرار مسيرته مستقلا, بغض النظر عن رؤي التعليم في القطاعات المدنية وخططها. وقد حدث من قبل ان وضع بعض وزراء التربية رؤي كلية عامة لمسيرة التعليم بالفعل, مثلما فعل الراحل دكتور مصطفي كمال حلمي فيما عرف في أواخر السبعينيات بورقة تطوير التعليم في مصر, عام1979, وكذلك السياسة التعليمية في مصر, في وزارة دكتور عبدالسلام عبدالغفار, عام1985 و(استراتيجية تطوير التعليم في مصر) التي كان لي شرف وضع معظمها, زمن توزر دكتور فتحي سرور للتعليم, عام1987. أما في عهد الدكتور حسين كامل بهاء الدين, فلم يكن يضع رؤية استراتيجية, وإنما كان يضع تقريرا سنويا بعنوان(مبارك والتعليم), لينفرد بين جميع وزراء التربية في تاريخ مصر, منذ عهد محمدعلي, بالربط بين مشروع التعليم وبين رئيس الدولة فضلا عن التركيز علي ماكان يسميه الإنجازات دون تركيز علي الرؤي المستقبلية. لكن المصيبة الكبري, ان ماكان يضعه كل وزير من استراتيجية او سياسة, كان يتم التغاضي عنها بعدما يترك الوزارة, ويجيء غيره ليحدث معه الشيء نفسه, وآخر مظاهر هذا المرض القومي, ما عرف بالخطة الاستراتيجية لتطوير التعليم في مصر, عام2007, وزمن الدكتور يسري الجمل, حيث ادار من جاء بعده( أحمد زكي بدر)ظهره لها, بعدما صرف عليها مبالغ طائلة, وإن اتسق هذا مع شخصية بدر الأمنية, حيث كان يعكس, في كل تصريحاته وأفعاله, كفره بالتربية, مع انه اختير وزيرا للتربية, وتلك كانت عجيبة من عجائب العهد المباركي غير المأسوف عليه. وهكذا لابد, أن يتوافر للتعليم المصري دستور, في صورة استراتيجية تطوير مستقبلي, يمكن البدء برسم معالمها, دون ان يعيقنا هذا عن القيام بالمهمة الإسعافية لإطفاء حرائق التعليم المشتعلة هنا وهناك, بحكم السيولة المذهلة في تداعي الأحداث, بفعل شهود مصر ثورة, لم تشهد مثلها في تاريخها الحديث, من بعد ثورة01919