ذكرنا فى مقال سابق أنّ للشعائر الإسلامية أبعادًا أربعة هي: البعد الاقتصادى، والبعد السياسى، والبعد الاجتماعى، والبعد الحضارى. وتوقفنا مع البُعدين الاقتصادى والسياسى، وفى هذا المقال سنتوقف مع البُعدين الاجتماعى والحضارىّ. فأما البعد الاجتماعى فيتمثل فى تقوية الروابط بين أفراد المجتمع، وتحقيق مزيد من التقارب والتفاهم فيما بينهم، ومن شأن ذلك أن يقوى البناء الاجتماعى، ويصدّ عوامل الهدم أو التخريب التى قد تتسلل إليه؛ فالمجتمع – كما صوره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) – كالجسم الواحد: «مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحُمَّى». ففى الصلاة يتحقق الترابط والتماسك من خلال الصف الواحد، وكذلك الدعاء الذى يكون بصيغة الجمع. وفى الصيام يتحقق من خلال الشعور بالجائعين والمحرومين بتقديم الطعام والصدقة، وإلباسهم الملابس الجديدة فى يوم العيد. وفى الزكاة يتحقق من خلال تقديم جزء من المال للفقراء والمحتاجين وغيرهم مِمَّن وجبت لهم الزكاة. وفى الحج يتحقق من خلال التعارف والتآخى والتعاون على أداء المناسك، والتعاون على البر والتقوى. وبهذا تُعَدّ الشعائر أهم أسباب القوة الاجتماعية؛ وذلك أن قوة أيّ مجمتع تتمثل فى مدى التماسك والترابط بين أفراده، وكلما قويت الرابطة بين الأفراد قويت شوكتهم، وتماسك بنيانهم، والعكس صحيح. إن نظام الشعائر يؤدى – لا محالة – إلى علاقات اجتماعية تقوم على أساس من تقوى الله وطاعته، وليس على أساس المصالح المادية، وهذا من شأنه أن يعمق العلاقات، ويقويها، ويضمن استمرارها؛ لأن المصالح المادية لا تصلح وحدها أساسًا لبناء علاقات مستمرة؛ لأنها تتسم بالتغيُّر وعدم الثبات، وقد تؤدى إلى التباغض والتحاسد والتصارع. وأما البعد الحضارى فيتمثل فى نوعية الإنسان الذى يقدمه الإسلام للعالم. ولما كانت الحضارة هى صناعة إنسانية فإن الإنسان هو – حقًّا – صانعها، والحضارة فى النهاية هى مجموعة القيم والمُثل التى توجّه سلوك الإنسان فى مجالات الحياة كافة، وهذه القيم والمُثل إما أن تكون مستمدة من الواقع، أو من مصدر آخر يتجاوز هذا الواقع، وثمة فرق بينهما: فالقيم المستمدة مِن الواقع هى قيم مادية فقط، محدودة بحدود الواقع، وتتغير بتغيره. والقيم المستمدة من مصدر آخر غير الواقع هى القيم الدينية التى تتميز بالثبات والاستقرار، كما تتميز بالتجرُّد والإطلاق، أى أنها قيم تحقق مصلحة جميع الأطراف، وتناسب جميع الظروف، بخلاف القيم الوضعية المستمدة من الواقع، فهى – غالبا – ما تنحاز لطرف ضد آخر، أو تتغير بحسب الظروف والأشخاص. وبحسب القيم التى يتبناها الإنسان تأتى إسهاماته فى الحضارة، فإن كانت قيمًا مادية فقط فإنها لا تتجاوز الجانب المادى للحضارة، بخلاف القيم غير المادية التى تبنى الحضارة على أسس روحية وأخلاقية تحفظ الحياة البشرية من الفساد أو الدمار. وفى ضوء ما سبق نجد أن الشعائر الإسلامية تعمل على تدعيم القيم والمُثل الروحية والأخلاقية فى حياة الإنسان؛ فالوضوء وما يعنيه من طهارة، والصلاة وما تعنيه من اتصال روحى بالخالق (سبحانه وتعالى)، والصيام وما يعنيه من سمو وارتقاء على الحاجات المادية، والزكاة وما تعنيه مِن تَطهُّر مِن الأنانية والاستئثار، والحج وما يعنيه من تَجرُّد وامتثال؛ كل ذلك يدعم القيم الروحية، ويرتقى بالسلوك الإنساني؛ لأن هذه الشعائر ليست مقصودة لذاتها، وليست معزولة عن حركة الحياة؛ إذ هى المحور الذى ترتكز عليه هذه الحركة، أو هى المركز بالنسبة لمحيط الدائرة؛ ومِن ثَم فإن السلوك الراشد أو الأداء الأفضل لا يتحقق إلا بهما أو معهما. وهذا بدوره يُطوِّر الوجود الإنسانى، ويحفظ المسيرة الحضارية من الانحراف أو السقوط.