تتفق الشريعة مع النظم القانونية فى مبدأ الجزاء والعقوبة التى توقع على المخالفين لأحكامها؛ تحقيقا للعدالة ومحافظة على الحقوق والممتلكات، ولكن مفهوم «الجزاء» فى الشريعة أوسع؛ فهناك جزاء دنيوى كما هى الحال فى القوانين الوضعية، وهناك جزاء أخروى يتعلق بكل مخالفة لأحكام الشريعة، سواء أكانت من أعمال القلوب أم من أعمال الجوارح، أم كانت تتصل بعلاقة الإنسان بخالقه أم علاقته بغيره من البشر، وسواء عوقب فى الدنيا أم لم يعاقب، إلا إذا اقترن بهذه المخالفة توبةٌ صادقة واستبراء مِن حقوق الآخرين، فلا يكون ثمة جزاء أخروى على هذه المخالفة. ولا شك أنَّ لهذا المنهج أثره فى حياة الفرد والمجتمع؛ حيث يكون التمسك بالأحكام من باب الخوف من الله، وليس الخوف من العقاب فى حَدِّ ذاته، ومن باب الاختيار والرضا، وليس الإكراه أو الضغط، وفى هذا وذاك أعظم دافع للتمسك بالفضيلة والبعد عن الرذيلة وسائر المنكرات. وأما عن العقوبات المقررة فى الشريعة فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عقوبات الحدود، وعقوبات القصاص، وعقوبات التعزير [التأديب]. وعقوبات التعزير هى أوسع أنواع العقوبات نطاقًا فى الفقه الجنائى الإسلامي؛ لأن جرائم الحدود معدودة لا تجاوز سبعًا فى أوسع الأقوال، وأربعًا فى أضيقها، وجرائم القصاص هى جرائم الاعتداء على النفس بالقتل أو الجرح أو الضرب، وما وراء هذه الجرائم فعقابه يدخل فى نطاق التعزير الذى يرجع تحديده وتقديره إلى القاضى وولاة الأمور. وقد سميت العقوبة غير المقدرة تعزيرا؛ لأنها تمنع الجانى من معاودة الفعل المعاقب عليه. ومن أهداف العقوبات بأنواعها المختلفة فى الشريعة أن تكون العقوبة جزاء ومقابلاً عادلاً للجريمة؛ ولذلك عبر القرآن عن العقوبة فى جرائم الحدود بلفظ الجزاء، بل صرح بأنها الجزاء المقابل للجريمة، كما فى سورة المائدة {إِنَّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُّقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهُمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ... (33)}. فأول أهداف العقوبة توقيع الجزاء العادل، باعتبار أن العقاب هو أحد وسائل حمل الناس على الالتزام بالقواعد والآداب المقررة فى المجتمع. وليس الهدف من تشريع العقوبات تطبيقها على المخالفين فقط، بل هى – كذلك – وسيلة للمحافظة على حقوق الأفراد وذواتهم؛ فهى ترمى إلى منع ارتكاب مزيد من الجرائم عن طريق توقيع العقوبة بسبب جريمة وقعت فعلا، وهذا هو الهدف الأكبر من توقيع العقوبة؛ فالعقوباتموضوعةللردع عن ارتكاب الممنوع وترك المأمور به ؛ فهى مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة، ويتعظ بها من يحضرها أو يسمع بها. ومما يؤيد ذلك أن نصوص الشريعة تأمر بالتنفيذ العلنى للعقوبة بموجب قوله - تعالي -: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النور: 2]. والإعلان عن تنفيذ العقوبة هو الذى يؤدى إلى تحقيق المنع العام من ارتكاب الجرائم. ومن أهداف العقوبة – أيضًا – إصلاح الجانى وتقويم سلوكه، ومنعه من الإجرام مرة أخرى، فالعقوبة ليست - فقط - وسيلة للإيلام، وإنما أداة - كذلك - للعلاج، فالجانى - فى النهاية - إنسان يحتاج إلى علاج عضوى أو نفسي؛ ليعود إلى حالته الطبيعية، فلا يُقدِم - مرة أخري - على الجريمة؛ وذلك يظهر – مَثلاً - من خلال عقوبة المحارب بالنفى أو التغريب، والنفى فى مذهب مالك هو السجن.كما أن مدة النفى غير محدودة، فيظل المحارب مسجونًا حتى تظهر توبته، وينصلح حاله فيطلق سراحه، وهذا رأى جمهور الفقهاء. ولأن طبيعة النفوس الحنق على مَن يعتدى عليها عمدًا، والغضب ممَّن يعتدى خطأ، فتندفع إلى الانتقام، وهو انتقام لا يكون عادلا أبدًا فى ظل ذلك الحنق والغضب، ولا تكاد تنتهى الثارات والجنايات بسببه، ولا يستقر حال نظام الأمة؛ لذلك كان من مقاصد الشريعة أن تتولَّى هى هذه الترضية، وتجعل حدًّا لإبطال الثارات القديمة، فتُرضى المجنى عليه، وتلزمه – من خلال مفهوم الجزاء الذى يشمل الدنيا والآخرة –بعدم تجاوز حد العقوبة التى قررتها الشريعة على الجاني.