من الأمور المتفق عليها بين الناس أن أعمال العقلاء وتصرفاتهم لا تخلو من قصد أو غرض تهدف إليه وترمي إلي تحقيقه, فإذا قال أحدهم- مثلا- لشخص يتسم بالتسرع والتهور: لا تتعجل, كان غرضه هو تجنيب هذا الشخص الوقوع في الخطأ أو الضرر الذي يحدث بسبب التسرع أو التهور. ولكن يلاحظ أن التعرف علي غرض القائل أمر يتفاوت في إدراكه السامعون, كما يتفاوتون في التعبير عنه, وهذا أمر يرجع إلي اللغة التي تتسم بالنسبية وقبول الاحتمالات المختلفة, ويرجع كذلك إلي دلالة السياق والقرائن المحيطة بالكلام مثل ملامح الوجه أو نبرات الصوت. وإذا كانت اللغة بطبيعتها تتصف بالنسبية, فإن القرائن أو الملابسات التي تحيط بالكلام, أو ما يسمي بالموقف اللغوي, تساعد علي معرفة المقصود من الكلام; فرؤية المتكلم أو الاستماع إليه مباشرة يكون أفضل, بخلاف ما إذا نقل الكلام إلينا عبر وسيط, ويزداد الأمر صعوبة إذا نقل إلينا الكلام مكتوبا; إذ يتطلب الأمر خطوات ذهنية تسعي إلي فك شفرة هذا المكتوب, بحيث يبدو في النهاية واضحا في أذهاننا, كما كان واضحا في أذهان من كتبوه. أضف إلي ما سبق أن( غرض) المتكلم أمر خفي كامن في أعماقه, وهو يستخدم اللغة واسطة لإظهاره ونقله إلي غيره; ومن هنا فإذا ما التبس علينا. فهم كلامه, فإننا نرجع إليه لمعرفة المقصود, أما إذا لم نستطع الوصول إليه, فإن كل الاحتمالات التي يقبلها الكلام تظل قائمة, ولا يترجح أحدها إلا علي سبيل الظن, وليس اليقين. وإذا كان الأمر علي هذا القدر من الصعوبة في فهم اللغة البشرية علي وجه العموم, فإنه يكون أصعب فيما يتعلق بالنصوص الدينية التي تحمل في طياتها معاني وأغراضا متنوعة, ومناط الصعوبة- هنا- هو استحالة الوصول إلي المشرع( بعد انتقاله إلي الرفيق الأعلي); لسؤاله عن غرضه وقصده, عندما يلتبس علينا فهم كلامه. ومن ثم كانت هذه النصوص مجالا لاجتهاد العلماء; سعيا إلي معرفة هذه المعاني والأغراض; ذلك أن الشريعة قبل أن تكون ألفاظا أو عبارات, هي معاني وأغراض ومقاصد تعبر عن إرادة المشرع; ولذلك تحتاج نصوص هذه الشريعة إلي جهود( عقلية) متتابعة, تستهدف تفهم المراد منها; تمهيدا لتطبيقها بصورة صحيحة تحقق الغرض من إنزالها. ومن المعلوم أن لكل تشريع من التشريعات مقاصد وأغراضا, قصد المشرع تحقيقها في واقع الحياة. وإن الغرض الأساسي للتشريع الإسلامي هو تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة, وذلك بجلب النفع لهم ودفع الضر عنهم; لكي يقوموا بمسئوليتهم في هذه الحياة علي خير وجه ممكن, وقد دل علي ذلك تتبع جميع أحكام الشريعة الواردة في القرآن الكريم أو السنة, فما من أمر فيه مصلحة للناس إلا وقد أمرت به الشريعة, وما من أمر فيه ضرر غالب إلا ونهت عنه. كما دل علي ذلك- أيضا- التعليلات الكثيرة الواردة في القرآن الكريم: ففي تعليل إرسال الرسل عامة قال- تعالي-: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس علي الله حجة بعد الرسل, النساء:165] وفي تعليل إرسال الرسول صلي الله عليه وسلم: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين, الأنبياء:107]. وفي تعليل شرعية الصلاة يقول- تعالي-: إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر, العنكبوت:45]. وفي الزكاة: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها, التوبة:103]. وفي الصيام: كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون, البقرة:103]. وفي تحريم الخمر: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون, المائدة:91], إلي غير ذلك من التعليلات التي يظهر منها غرض المشرع وقصده من هذه التشريعات.