تكمن الأحلام في النفس بموطن الإرادة وإن لم تجد لها سبيلا في الواقع إلا أن النجاح في الحياة لا يقف عند حد الطموح السلبي ومن هذا المنطلق كان علي أن أواجه قدري وأنزع عني كل أسباب الضعف واليأس وأصدق أن الدنيا التي امتلأت بها عيني نورا وحياة أغلقت أنوارها الآن وأحاطتني بعتمة أبدية لا ضياء لها إلا في نفسي وإن لم أستطع إشعال مشعل الإرادة والتحدي فيها سوف أبقي رهين المحبسين اليأس والظلام.! لم أعرف في حياتي شيئا من معاناة أو إحساس بالاحتياج فقد كنت وحيد والداي, مدللا, كل رغباتي مجابة وقد كان والدي ميسور الحال كل أحلامه تتلخص في أن أعمل معه في تجارته وأحافظ علي المال من بعده, ولم يكن يهمه أني متعثر في دراستي, مقتنع بأن الشهادة مش هتأكلني عيش, تساهل معي في كل شيء إلا خوفه علي من الضياع في متاهات الهلوسة وأدخنة المزاج الزرقاء ودوامات السموم البيضاء أو أن ألهث في ركب النساء والملاهي الليلية وهداه عقله أن الزواج وقاية لي من مدارك الشيطان فقرر أن يخطب لي وفي بضعة أشهر وجدتني وأنا بعد لم أكمل عامي التاسع عشر بعد زوج ومسئول عن بيت ولكني لم أصدق ولم أشعر بذلك عشت حياتي كما يتفق لي وظلمت زوجتي بهجرها لصبايا إبليس وعالمه ومات والدي وآلت لي ثروته وازداد استهتاري وغيي حتي عندما رزقني الله بولد لم يتحرك لي ساكن ولم أدرك حجم نعم الله علي وكأنني كنت في انتظار زلزال ضخم تهتز له حياتي كي أفيق. اصطدمت سيارتي بإحدي السيارات في حادث مروع, كنت عائدا من ملهي ليلي ولست في كامل وعي وخرجت من الحادث بأعجوبة.. كنت بقايا إنسان وسكنت العناية المركزة فترة طويلة غبت فيها عن الدنيا لا أدري من حالي شيئا وبعد مشوار طويل من الجراحات والعلاجات والتعلق بأسباب الحياة بشق الأنفس خرجت من المستشفي بعاهة كتبت علي الأقدار أن تصاحبني مدي الحياة. فقدت قدرتي علي الإبصار مع شئ من التعثر أثناء المشي وبرشام أتعاطاه مجبرا كل صباح حتي لا أشعر بالألم, أين تلك الحياة التي كنت أحياها, أين والدي وخوفه علي, هل رحل وترك لي خوفه مجسدا في ظلمة تطبق علي أنفاسي كلما تنفست في الدنيا, هل غادرتني مباهجي وملذاتي وحان وقت الحساب؟ ألم تكن هناك فاتورة أيسر من ذلك السواد؟ كان لزاما أن أخضع لفترة علاجية كبيرة من التأهيل النفسي حتي أتقبل حياتي الجديدة بعد أن وهنت قواي العصبية وانتابتني حالات هياج شديدة, نوع من الانهيار العصبي لازمني طويلا حتي استطعت أن أتوازن بعض الشيء وخرجت للدنيا وكأني أولد من جديد.. لي ابن عم أكثر من أخ لي كان يباشر أعمال التجارة التي تركها والدي وكدت أضيعها, أخذني إلي مكتبي وأراد أن يسلمني إدارة التجارة, ولكن كيف لي وأنا كفيف أن أقوم بعمل كهذا وهل أنجح فيما فشلت فيه وأنا مبصر؟ ولكنه قال لي إنه لن يتركني وسيقف إلي جواري يدا بيد, لعل من رحمة الله سبحانه وتعالي بي وجود ابن عمي هذا معي ووجود زوجتي في حياتي فلولاهما ما امتد جسر بيني وبين الدنيا أخطو عليه لكي أعبر المستحيل. أحاول أن أتعلم طريقة بريل في القراءة وما لحقها من تطور اليكتروني, وبدأت أتوافق شيئا فشيئا مع حركة العمل وأشارك بالرأي في الإدارة وأوقع بختمي صفقات وعقود, أحسست بمعني الحياة وقيمة الوجود فيها, قد لا يصدقني أحد أني بالفعل عبرت جسر المستحيل وأن الأطباء الذين أجزموا قبل سنوات باستحالة عودة البصر لي لا يعرفون أن مستحيلهم هذا لم يعد عقبة في حياتي, بل أجزم أني الآن مبصر أكثر منهم ولكنها بصيرة أكثر منها بصر وأستطيع أن أقول أن حياتي الماضية قبل الحادث كان قلبي فيها أعمي وعقلي يفتقد البصيرة فماذا فعلت بنور عيناي غير اللهو والسير وراء الشيطان. لست أدر هل أنا بالفعل نجحت ومحق فيما أشعر من أحاسيس إيجابية لم أكن لأعيشها لولا ذلك التحول الجذري في حياتي عقب الحادث؟ ك. ع. القاهرة لك الله يا أخي يعينك علي ما أنت فيه من محنة في ظاهرها ومنحة في باطنها ولعلك اهتديت لسر هذه المنحة في محنتك ما جعلك تعبر جسر المستحيل ولتكن علي يقين من أن مقدرات الله تأتينا بحكمة وأنت نفسك تعد آية فيما وقع لك من مجريات الحياة وكيف كنت لاهيا مستهترا ضائعا حتي لقيت نفسك باختبار عظيم وأحسبك قد نجحت فيه وعوضك الله خيرا عما فقدت بصيرة راجحة ورؤية من نوع آخر يشع ضيائها من داخلك تنير لك الطريق. و لعلك تفوز بالعوض الأعظم إن شاء الله خاصة وأنك سعيت في الحياة بصيرا مهتديا لله بعد أن كنت مبصرا ضائعا لا تعرف طريق الله مصداقا لقول الله تعالي من سورة الأحقاف وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغني عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم