تدور مادة( ر ح م) حول معاني الرقة والعطف والرأفة, وتميز اللغة العربية في هذه المادة بين ثلاث كلمات: الرحمة والمرحمة والتراحم, فالرحمة تطلب من طرف واحد( ارحموا من في الأرض), والمرحمة شعور يفيض ولا يحتاج إلي طلب أو توصية من أحد, والتراحم تبادل ومشاركة( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم..) وهذا يصور طبيعة الرحمة في المجتمع الإسلامي: أنها رحمة تكليف ورحمة طبع ورحمة مشاركة.. والرحمة- في الثقافة الإسلامية- هي تاج الأخلاق وجوهرها.. قال ابن القيم:( كل مسألة خرجت من الرحمة إلي ضدها فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل) أي بالاجتهاد.. ومعني ذلك أن أي حكم فقهي في الأحكام الفرعية يدخل الناس في العنت والحرج والعذاب يكون حكما باطلا شرعا لأنه في هذه الحالة صار متعارضا مع أصل كلي من أصول الشريعة وهو أصل الرحمة.. أن الرحمة ليست فقط قيمة أخلاقية وإنما هي خطة بناء وإعداد, وأداة للإدارة والشئون الاجتماعية, ومنهج للسلوك اليومي يمارسه الفرد المسلم في بيته وعمله والطريق الذي يسلكه.. والحال التي يكون عليها من رضا أو غضب.. من فقر أو غني.. من قوة أو ضعف.. إنه يدور معها حيثما كان ومع أي إنسان.. إنها عنوان المسلم: بها يعرف وبها يستدل عليه, تغيب إذا غاب وتحضر إذا حضر.. وإذا تتبعنا آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن الرحمة فإننا نجده يذكر الناس بضرورة العودة إلي حالة الرحمة والمرحمة والتراحم في مواجهة حالة القسوة والعنف والتناحر ليعيد من خلالها تشكيل وبناء علاقات فردية واجتماعية جديدة, ينتقل فيها البشر من حالة التناحر إلي التنافس, ومن التنافس إلي التعارف ومن التعارف إلي التراحم.. ولأن مساحة الرحمة واسعة جدا تستوعب كل أعمال الحياة فإن الأمر يتطلب إعادة النظر في البرامج والنظم التعليمية والإعلامية لتحديد دورها في بناء ثقافة الرحمة في جميع المراحل العمرية وجميع المستويات الاجتماعية كي تعود علامة ظاهرة من علامات المجتمع الإسلامي.. وهذا يتطلب تجديد لغة الخطاب الديني والثقافي بما يجسد هذه الثقافة ويحولها إلي عمل مؤسسي يتبني الحاجات الإنسانية وبدافع عنها ويحشد كل الجهود من أجلها..