المغالاة في الطاعات ممنوعة لأن القلب له إقبال و إدبار والمساس به في العقيدة يجعل صاحبه مبتدعا أخبر الله, نبيه صلي الله عليه وسلم ما يعد دستورا في الاعتدال عندما قال سبحانه في محكم آياته( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا)( هود:112), الطغيان: هو الغلو, وترك الاستقامة, ولذلك الغلو يحتاج إلي توبة, وهذا الغلو في رد أمر الله تبارك وتعالي امتحنت به هذه الأمة, امتحنت بالغلو العقدي, وامتحنت بالغلو الجزئي في العمل, مع الفرق بين النوع الأول والثاني, الغلو الاعتقادي أشر; لأن صاحب البدعة لا يدع بدعته علي الإطلاق مهما عير, ثم هو يظن أن بدعته دين, فهو يريد أن يمضيه علي الناس, كالخوارج مثلا. يقول الشيخ حمادة القناوي من علماء الأوقاف إن النبي عليه الصلاة والسلام, وصف الخوارج بأنهم أعبد الناس, وأكثر الناس صلاة وصياما, وأقرأ الناس للقرآن, قال صلي الله عليه وسلم:( يحقر أحدكم صلاته إلي صلاتهم وصيامه إلي صيامهم, يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم), هؤلاء الناس ماذا يفعلون؟ قال عليه الصلاة والسلام:( يقتلون أهل الإسلام ويذرون أهل الأوثان), يقتلون أهل الإسلام, فهم يعتقدون أن دمي ودمك حلال. ففي مرة من المرات أحد المبتدعة مر علي فرقة من فرق الخوارج, ومن المعلوم أن الخوارج يستبيحون دماء المسلمين, فأول ما عرف أنه وقع- ومن معه- في قبضة الخوارج, قال: أنا سأحتال لكم حيلة, حتي ننجو بجلودنا, فقال لأصحابه: أنا سأتكلم عنكم وأنتم لا تتكلمون, فلما دخلوا علي هؤلاء الخوارج, سألوهم من أنتم؟ قال: نحن قوم مشركون, جئنا نسمع كلام الله, فنجا ومن معه من الهلاك المحقق; لأنه قال: أنا مشرك, لو قال لهم: أنا مسلم لقتلوه. وذلك من فهمهم لقوله تعالي:{ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتي يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}, التوبة:6], فأخذوهم وأسمعوهم كلام الله, وأمنوهم فقالوا: اتركونا نفكر في كلام الله الذي سمعناه, ونجوا بذلك, فالخوارج يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان. لأن هذا الانحراف والغلو العقدي أخطر بكثير من الغلو العملي الذي غاية ما فيه أنه يتعلق بالشخص ذاته. كما في حديث أنس في الصحيحين أن رهطا جاءوا أبيات النبي صلي الله عليه وسلم يسألون عن عمله, فلما سمعوا أنه يتزوج النساء, وأنه يقوم وينام ويصوم ويفطر, قال بعضهم لبعض. هذا رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, أي: هذا رسول الله عمل أو لم يعمل فهو مغفور له, أما نحن فلابد أن نجد ونجتهد, فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر, والثاني قال: أقوم ولا أنام, والثالث قال: أنا لا أتزوج النساء, فقصت عائشة رضي الله عنها هذا الكلام علي النبي عليه الصلاة والسلام, فأزعجه الأمر, ونادي في الناس, فاجتمعوا فقال:( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا, ألا إني أتقاكم لله وأشدكم لله خشية); وذلك لأنهم تقالوا عبادة النبي عليه الصلاة والسلام فهؤلاء في نهاية الأمر وقعوا في الغلو الجزئي العملي الذي يعود علي الشخص نفسه, بخلاف الغلو الاعتقادي, فالنبي صلي الله عليه وسلم ذكر أن أمته ستفترق علي ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة, إذ إن أصحاب الثنتين والسبعين فرقة غلوا في الاعتقاد وخرجوا عن الحنيفية السمحة, لذلك قال النبي صلي الله عليه وسلم فيهم:( كلها في النار) بسبب انحرافهم عن الجادة:( إلا واحدة). والغلو ممنوع شرعا حتي ولو كان في العبادة: فإن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال لابن عباس في الحج:( التقط لي مثل حصي الخذف وإياكم والغلو, فإنه أهلك من كان قبلكم). ويضيف الشيخ حمادة: لذلك النبي صلي الله عليه وسلم قال:( إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق, فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي). انظر إلي الكلام الجميل! رجل مستعجل, يريد أن يدرك أقرانه, هو راكب دابة, فمن شدة استعجاله ظل يضرب في الدابة حتي قتلها, فوقف مكانه, لا أرضا قطع- لا هو مشي- ولا أبقي الظهر الذي كان يركبه, فلما قتلت الراحلة وقف! هكذا الغالي, يظل يغلو حتي يخرج من الهدي الصالح, وهو هدي النبي صلي الله عليه وآله وسلم. ويقول الدكتور أسامة الشيخ أستاذ, رئيس قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بطنطا: إن معرفة السبب يحدد نوع العلاج وصفة الدواء, فلا علاج إلا بعد تشخيص, ولا تشخيص إلا ببيان السبب أو الأسباب, ومن أهم هذه الأسباب ادعاء الحق المطلق حيث إن كل طائفة أو فئة يدعون أنهم يملكون الحق المطلق, ولا يدركون أن الحق واحد لكن له أوجه متعدد, الأمر الذي يؤدي إلي رفض سنة الاختلاف, والنزوع إلي الإقصاء بالعنف. الجهل بالدين وأصوله وقواعده ومقاصده: فالنظرة السطحية للدين من أكبر أسباب التعصب والتطرف, فتري المتمسك بالدين بشكل سطحي يبتعد عن روح الدين ومقاصده التي جعلها الله هدفا لوجود الإنسانية, فتري الجاهل يتمسك بأمور لم يأمر بها الدين ظانا أنها من الدين. ويضيف الدكتور أسامة الشيخ: الجهل داء عظيم وشر مستطير تنبعث منه كل فتنة عمياء وشر وبلاء, قال أبو الدرداء( كن عالما أو متعلما أو مجالسا ولا تكن الرابعة فتهلك. وهي الجهل, وذلك أن الجاهل يسعي إلي الإصلاح فينتهج طرقا يظنها حسنة فيسيء من حيث أراد الإحسان, فيترتب علي ذلك مفاسد عظيمة. وكذلك الفراغفقد روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس, الصحة, والفراغ) فإن الفراغ مفسدة للمرء وداء مهلك ومتلف للدين والفراغ النفسي والعقلي أرض خصبة لقبول كل فكر هدام وغلو وتطرف, فتتغلل الأفكار وتغزو القلوب فتولد جذور يصعب قلعها إلا بالانشغال بالعمل الصالح والعلم النافع.