لاتزال القصة البوليسية كلون روائي علي هامش أدبنا العربي, لاسيما إذا عند مقارنة مكانتها وموقعها بنظيرتها في الأدب الغربي من حيث الإبداع والكتابة والانقرائية و اهتمام النقاد والدارسين منذ أسس لها بعض الأسماء اللامعة, وفي مقدمتهم الكاتب ادجار آلان بو(18491809 م), في قصته البوليسية جرائم شارع مورج وما تبعها من قصص تولي التحقيق في جرائمها أوجست دوبان, إضافة إلي آرثر كونان دويل مبدع الشخصية التي عرفها العالم كله شرلوك هولمز, والكاتبة الإنجليزية الأكثر شهرة أجاثا كريستي وغيرهم, ممن قدموا أعمالا عظيمة شهيرة مثل اسم الوردة لأمبرتو إيكو, وشيفرة دافينشي لدان براون. أيضا ورق علي الطاولة, والرمز المفقود, وكلب آل باسكرفي, ومقتل روجر اكرويد من روائع الأدب اليوليسي الذي أثري الوجدان والمعتمد علي التحري والتشويق والغموض, والمحفز للتفكير والذكاء والقراءة بنهم, إلي الحد الذي قد لا يستطيع القارئ ترك الرواية إلي أن يصل إلي نهايتها. ومن يستطيع مقاومة الرواية البوليسية أو ذلك اللغز الذي وصفه إدجار آلان بأن حله يحتاج إلي المنطق الدقيق الذي به تحل مسألة رياضية؟!, فالوصول إلي الحقيقة, يقتضي مسارا شديد التعقيد, وعملا سريا, يجمع بين الحدس والتحليل والاستنتاج. والقارئ دائما حين يفعل ذلك هو لا ينجذب فقط لمجرد قصة شيقة وخيال واسع, لكنه أيضا يحاول دون أن يدري الوصول لذلك السؤال الصعب, الذي أشار إليه الناقد الفرنسي فيليب كوركوف في كتابه رواية بوليسية, فلسفة ونقد اجتماعي حين أكد أن الرواية البوليسية تستطيع أن تساعد القارئ علي حل سؤال: هل لحياتنا معني في خواء العالم الحديث؟. خاصة أن القارئ هنا ينتقل إلي عالم يكاد يخلو من رتابة الحياة اليومية وقسوتها, ليسعد في النهاية بتحقيق العدالة, بالإضافة إلي حبه للوصول إلي الحقيقة التي كثيرا ما يعجز عن الوصول إليها علي أرض الواقع, فضلا عن إشباع حبه الفطري للأسرار ولكل ما هو غامض.وهو ما ينعكس بدوره علي دور النشر الغربية التي تولي اهتماما بالغا للنشر في هذا المجال, ويسري الأمر أيضا علي الصحافة الغربية التي لا تتواني عن نشر الجديد والترويج له, خاصة مع بداية موسم الصيف; حيث ترتفع انقرائية هذه القصص, والغريب أنه في ظل تزايد شعبيتها وقدرتها علي جذب قاعدة كبيرة من القراء العرب, فإن هذا اللون الأدبي يعاني في الأدب العربي التعالي من جانب الأدباء أنفسهم, ذلك برغم ما ينسبه البعض للشرق من أنه هو من أول عرف هذا اللون الأدبي, معتبرا أن قصة التفاحات الثلاث التي تتضمنها ألف ليلة وليلة, هي البداية ليؤكد هذا الرأي أن هذه الأعمال قد سبقت الغرب, حتي لو صح أنه كانت هناك بدايات مبكرة للرواية البوليسية علي يد فولتير في روايته زاديج. وفي السنوات الأخيرة شهدت الساحة الأدبية المصرية محاولات عديدة لكتابة الرواية البوليسية, ومنهم الأديب مدحت شنن, وذلك منذ أن فازت روايته الوهم بالجائزة الأولي لنادي القصة, لتلفت الأنظار مرة أخري إلي الرواية البوليسية العربية. وتدور القصة رحول المحامي الشاب علي الأباصيري الذي يخوض مغامرة للكشف عن جريمة اتهمت فيها زميلته نهلة الأيوبي بتهمة قتل طفلها الرضيع أمجد بالسم حين كان محتجزا في مستشفي الأطفال التخصصي, فيخوض مغامرة للدفاع عنها, إلا أنه يفاجأ بأنها مريضة بمرض نفسي نادر اسمه وهم توهم كابجراس, هذا المرض الذي يجعلها تتوهم أن والدها رجل الأعمال عامر الأيوبي ليس والدها, إنما هو شخص قتله, وتتوالي الأحداث التي تقوده إلي مفاجأة غير متوقعة, تحمل جريمة أخري أكثر خطورة, حيث تحمل الأحداث من الخيوط مايجعلها تتشابك. وينجح مدحت شنن في تقديم أحداث روايته في قالب بوليسي مشوق ويرسم شخصياته الغامضة بلغة تتميز بسلاسة شديدة في السرد, ولعل ما ساعده علي خوض هذا الشكل الروائي بجرأة فضلا عن موهبته, هو انتسابه إلي ميدان العمل الجنائي عبر ممارسة مهنية يومية كمحام, مما زوده بتراكم كبير في القضايا الجنائية, والمشكلات الاجتماعية التي تناولها بنظرة برؤية فلسفية تجدها تطل عليك من حين إلي آخر في الرواية ذات الأبعاد الفلسفية الاجتماعية. علي سبيل المثال حين تتناول الرواية فكرة إقدام الإنسان علي اقتراف أفعال ما تحت تأثير مرض أو ضغوط, ففي المقابل تتعرض الرواية لقوة ووضوح فكرة القدرة علي المقاومة التابعة من القوة الداخلية, خاصة في المواقف والأزمات الصعبة لدي البعض الآخر من البشر, ويتجلي ذلك في شخصية المحامي البطل ليذكرنا ذلك بالروائيين البوليسيين الغربيين الجدد جايمس إليروي, موريس دانتك, مانويل فازكيز الذين لم يبقوا علي الجريمة وحدها في أعمالهم, إذ تقدمت عليها أمور أخري مثل القضايا السياسة والاجتماعية والنفسية بل الفلسفية والميتافيزيقية. وهو الأمر نفسه الذي وجدناه في القصة البوليسية في الأدب المغربي بالتحديد في مرحلة الستينيات, حين كانت هناك تجارب لكتابتها مغلفة بطابع اجتماعي واقعي واضح, ليصبح النص البوليسي وسيلة لطرح الصراعات والقضايا الاجتماعية الشائكة, ومن ذلك أعمال البقالي وبن التهامي, ولذلك يقول شنن ليس من الصعب علي القارئ أن يكتشف بنفسه أن مؤلف الرواية هو محام من خلال استخدامي المصطلحات القانونية, وإدارة الجلسة واليوميات والرحلة الصعبة, التي يعيشها يوميا بين أروقة المحاكم وتفاصيل الحياة اليومية فيها. ويضيف: منحني عملي ثراء فيما يتعلق بالقضايا والتجارب الإنسانية أيضا, ففي كل يوم قصة يعرضها موكل أو موكلة, وهو ما جعل لدي حصيلة من التجارب الإنسانية والقضايا الاجتماعية أستطيع ترجمتها في شكل روائي. وحول أسباب عدم انتشار الرواية البوليسية حتي الآن يقول: ربما بسبب النظرة الدونية لها من جانب الكثيرين!. لكن علي الرغم من هذه التجربة الأدبية وغيرها من المحاولات الأخري, لا تزال الرواية البوليسية علي هامش الأدب العربي. فهل تشهد المرحلة المقبلة أعمالا جديدة تضيف جديدا لهذا اللون الأدبي.