مهداة: إلي ثوار ثورة الخامس والعشرين من يناير من العام الحادي عشر بعد الألفين. 1- مبتسمة راحت تتجه نحونا, وهي تخطو خطواتها الواثقة من نفسها, حاملة بين يديها طاقة نور من الورد, مرتدية جلبابا أخضر بلون الزرع, وجدتني أتساءل في حيرة وخوف عليها: - ما الذي دفعها للمجئ إلي الميدان..؟!! ولماذا الآن.. الآن تحديدا في مثل هذه الظروف العصيبة..؟!! ربما قد جاءت خصيصا إلي أرض الميدان لتوزع علينا هداياها من الورود..! رويدا.. رويدا.. راحت تزيد من خطواتها, تسبقها إلينا ابتساماتها التي أضاءت المكان من حولنا.. العسكر ذوو الوجوه الصماء المتحجرة قد تنبهوا لها, بعدما عرفوا مقصدها من الزيارة. فجأة.. راحت الأرض تهتز وبشدة من أسفل منا, وهم يسرعون خلفها... هرولت نحونا وهي تصرخ في هلع وخوف: - ابنائي.. أبنائي.. الورود من كثرتها, ومن جراء اهتزازات يديها, راحت تتساقط, لتدوسها بيادات العسكر, التي مازالت تلاحقها. خوفنا الشديد عليها جعلنا نسرع.. ونسرع تسبقنا إليها أيادينا الممتدة طول أذرع مديدة. لهفتي وخوفي الشديد عليها, جعلاني أول من يصل إليها لآخذها بين يدي, قبل أن تسقط علي الأرض.. أخذتها جانبا بعيدا عن عيون وأيادي هؤلاء العسكر, التي راحت تضرب دون شفقة أو رحمة باقي زملائي الذين جاءوا من كل بقاع المحروسة, للمطالبة بحقوقهم المنهوبة منذ سنوات طويلة.. - شكرات لك.. قالتها وهي تتصبب عرقا وألما.. قبلت يدها. مدت يدها إلي بآخر زهرة كانت معها.. شيئا فشيئا.. راحت أنفاسها المتلاحقة تهدأ. وجدتني قد تناسيت كل شئ من حولي, بعدما رحت أسبح بخيالي في بحر وجهها الصافي الذي يشبه إلي حد ما وجه أمي أمل التي تركتها تدعو الله ودموعها تغسل خديها بأن أعود إليها من أرض ميدان التحرير سالما منتصرا أنا وباقي الزملاء. - هجووووووووم. صرخ بها القائد, آمرا العسكر الاحتياطي بالاسراع إلي أرض الميدان. خوفي علي زملائي, من جراء ضربات العسكر المتتالية جعلني أفقدها وسط الزحام الشديد, فما كان مني غير أني رحت أقبل( زهرة الياسمين) التي أعطتها لي قبل رحيلها ثم دفعت بنفسي في جوف المعركة. 2- تصدينا الشديد وضرباتنا المتتالية للعكسر بالأحجار, جعلهم يتراجعون إلي الخلف رويدا.. رويدا.. الهدوء الحذر راح يعم صفوف العسكر.. - نموت.. نموت وتحيا.. تحيا مصر.. - الشعب يريد إسقاط النظام.. أصواتنا التي راحت تخرج من حناجرنا كطلقات رصاص, لم تتوقف لحظة واحدة, رأيتها تقف بجوارنا.. تشد من أزرنا, وهي تقول في صبر: - من كل قلبي.. رب الكون ينصركم.. أو هكذا خيل إلي, علي الفور تذكرت زهرتها التي خبأتها داخل قميصي خوفا عليها, في حذر وخوف شديدين رحت أخرجها. ما هذا..؟!! زهرة الياسمين تخرج أنفاسها الأخيرة, من جراء ذبولها.. قلق.. خوف.. حزن.. ثالوث قاتل دفع به شيطاني اللعين في صحراء فكري, وأنا أتأملها. رآني أحد الزملاء فأسرع يحفر بأصابعه( حفرة) صغيرة من أرض الميدان, وعندما رآها زميل آخر وهي تعاني سكرات الموت بين أصابعي, انتشلها, وغرسها داخل حفرة الأول, رآنا ثالث فأسرع بريها بآخر قطرات مياه كانت متبقية داخل زجاجة من مياه نيلنا العظيم.. - يارب.. قالها الواقف بجواري.. رحت أتأملها وأنا أدعو الله تعالي أن يحفظها من كل سوء. 3- أعدادنا المتزايدة تباعا أربكتهم.. أصواتنا التي لم تتوقف قط أخافتهم.. الطائرات راحت تحلق فوق رؤوسنا, لبث الخوف والرعب في قلوبنا.. الدبابات التي ظهرت فجأة راحت تحاصرنا.. وكلما ازددنا حصارا, أزددنا صلابة وقوة.. - نموت.. نموت وتحيا.. تحيا مصر.. - الشعب يريد إسقاط النظام.. طلقة غادرة خرجت بنجاح من فوهة بندقية أحد القناصين, لتصيب من نحمله علي أكتافنا.. ذلك الشاب الذي حفر حفرة. للزهرة, سقط فتلقفته أيادينا, وهو يرفع إصبعيه في قوة وصلابة علامة علي النصر, حاول أن يتكلم فمنعناه, إلحاحه الشديد جعلنا نتركه يقول ما عنده, مبتسما.. خرجت آخر كلماته: - أياكم أن تتخلوا عن زهرة الياسمين... في ألم وحزن أغمضت عينيه.. رفعنا آخر بناء علي طلبه وإصراره, صوب نظراته.. صرخاته نحو مكان القناص المختبئ علي مقربة منا: - نموت.. نموت وتحيا.. تحيا مصر.. - الشعب يريد إسقاط النظام.. ونحن من خلفه رحنا نردد كلماته.. تعجب القناص.. خرجت طلقة أخري, لتصيب من نحمله. ذلك الذي غرس الزهرة في جوف الحفرة, حاولنا إيقاف دمه المتدفق بشدة من صدره, لكننا لم نستطع, حاول أن يتحدث إلينا, لكنه لم يستطع, ولكنه نجح في أن يشير بإصبعيه نحو زهرة الياسمين, بعد أن ابتسم ابتسامة أخيرة. قفز ثالث عاليا فوق أكتافنا, وقبل أن تصيبه يد القناص المرتعشة نظراته, صدرت أوامر بعدم الضرب, بعدما ذاع وانتشر خبر ثورتنا.. ثورة التحرير والتحرر عبر وسائل الإعلام العالمية. فجأة.. تذكرت زهرة الياسمين.. أسرعت إليها فوجدتها تذرف الدموع علي قتلانا, أو هكذا يخيل إلي.. 4- تطويق العسكر لنا, ومنعهم خروجنا لقضاء حاجتنا من الطعام والشراب, أو دخول أحد إلينا, جعل الأمراض تتفشي بيننا, وراح أسد الجوع يفترسنا الواحد تلو الآخر دون رحمة أو شفقة, ورغم حدوث كل هذا نرفض إخماد ثورتنا, تلك الثورة التي أشعلناها نحن الشباب, بعد أن أقسمنا علي كتاب الله بأنها لن تخمد نيرانها إلا بعد تنفيذ شروطنا علي الوجه الأكمل. زهرة الياسمين عادت مرة ثانية إلي ذبولها.. جن جنوننا ونحن نراها تلفظ أنفاسها الأخيرة. - نموت.. نموت وتحيا.. تحيا مصر.. - الشعب يريد إسقاط النظام.. عادت صرخاتنا تهز العسكر من حولنا هزا, بعدما ظنوا أننا في طريقنا لرفع رايات الاستسلام - تقدموا.. تقدموا.. تقدموا.. ظل يرددها قائد العسكر في ضيق وحيرة من أمره. عربات المياه أسرعت باختراق الدائرة محكمة الإغلاق من صفوف العسكر.. راحت الخراطيم تدفع بالمياه نحونا.. لتفريق وحدتنا.. اغتسلت ملابسنا تماما.. أسرعت بخلع البروفل ورحت أعصره عصرا, لكي أروي ظمأ زهرة الياسمين,, وظمأي أنا الآخر, ومن خلفي فعلها باقي الزملاء الواحد تلو الآخر, حتي وجدنا الحياة قد بثت في أطرافها وعادت إليها ابتساماتها. - وماذا بعد..؟! قالها قائد العسكر في ذهول وجنون وحيرة من أمره, وهو يضرب الأرض بقدميه.. 5- تماسكنا.. توحدنا.. صلابتنا.. كل ذلك جعل العسكر ينقضون علينابعد صدور أوامر قائدهم: - هجوووووم تكسيييييييير شلل تاااااااام عالية راحت عصيهم ترتفع. لتتزل فوق رؤوسنا. بيادات العسكر راحت تسبح في بحر دمانا. خوفي الشديد عليها من أن تطولها أياديهم جعلني أسرع إليها. ما هذا..؟!! اعتصرني الألم والخوف عندما رأيتها وهي تموت عطشا. دمائي المتساقطة من وجهي ورأسي لم تتوقف.. فجأة.. وجدتني أروي ظمأها بدمائي المتساقطة, ومن خلفي فعلها زملائي. 6- بابا لو سمحت صورني هنا. فرحة قالتها ابنتي( شمس) في تمن,, وهي واقفة أمام( ميدان شهداء التحرير) بعد أن أصبح الميدان مزارا سياحيا, بعد أن أصبح يوم الخامس والعشرين من يناير من كل عام عيدا نحتفل به نحن المصريين لإسقاط النظام الحاكم, وقفت ابنتي في وضع الاستعداد أمام صور شهداء ثورة التحرير. والتحرر, وزهرة الياسمين الواقفة في شموخ تظلل عليهم..!! محمود أحمد علي فاقوس شرقية