النموذج الإرشادي لنظام مبارك لايزال للأسف يعمل بكفاءة, فالحوارات التي تجريها الحكومة أو المجلس العسكري شكلية تماما وتفتقر للانتظام والتأثير, ولا تعبر عن قوي وفاعليات ثورة25 يناير. الانقسام والاستقطاب حول الدستور أولا أم الانتخابات. تحول الي خطر يهدد قدرة الثورة علي الاستمرار, ويبدد قوة الثوار, فالنقاش العام متركز علي دفاع كل فريق وما يقدمه من حجج وبراهين منطقية وقانونية وإجرائية علي موقفه ورغم كل هذا الصخب تضيق كل يوم فرص إجراء حوار جاد موضوعي, وتتلاشي الرغبة والقدرة علي تقديم تنازلات أو التوصل لحلول وسط تنقذ الوطن من انقسام سياسي لا يخلو من أطماع ومصالح سياسية وانتخابية ضيقة لبعض القوي والأحزاب التي لا تنظر لمصلحة الوطن إلا من زاوية مصلحتها السياسية الضيقة. بسبب الصراع والاستقطاب حول أولوية الدستور أم الانتخابات تراجع الي حد كبير الاهتمام بتحقيق أهداف الثورة فعجلة التغيير وهدم النظام القديم تدور ببطء, ومحاكمة المخلوع ورموز نظامه تسير خطوة للأمام وتتراجع خطوتين, والإجماع الوطني حول ضرورات تغيير السياسة وعملية اتخاذ القرار والأداء الاقتصادي والإعلامي. يشتد الجدل حول الانتخابات أم الدستور, بينما يظل النموذج الإرشادي لنظام مبارك قائما وفاعلا في الساحة السياسية, بل وفي دوائر صنع القرار وأقصد بالنموذج الإرشادي مجموعة القيم والأفكار والتوجهات السياسية والغايات والوسائل المعلنة وغير المعلنة التي تحدد ملامح أي نظام سياسي وتقود حركته وعلي سبيل المثال هناك إصرار علي الإبقاء علي مجلس الشوري ونصف مقاعد البرلمان للعمال والفلاحين بدون ضبط أو تحديد لمفهوم العامل والفلاح, وهناك غموض مريب يتعلق بمفهوم وآليات التغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية, وجاءت الموازنة الجديدة للعام المقبل لتؤكد استمرار النموذج الإرشادي لنظام مبارك, من حيث التحيز للأغنياء وتقزيم قدرات الاقتصاد المصري, والافتقار للخيال والطموح, وتقديم أرقام غير دقيقة فوزير المالية لم يحاول زيادة موارد الدولة, ولجأ كعادة حكومات المخلوع للاستدانة من الداخل والخارج, كما أبقي علي الضريبة الموحدة20% التي يدفعها العامل والموظف البسيط ورجال الأعمال, وأضاف5% فقط لمن تصل أرباحه الي10 ملايين جنيه, لكن ماذا عمن تزيد أرباحه علي العشرة ملايين؟, ولماذا الاستمرار في دعم مصانع الحديد والسيراميك والأسمنت والأسمدة طالما أن أصحابها يصدرون منتجاتهم للخارج, أو يبيعونها في السوق المصرية بالأسعار العالمية. الانشغال بالصراع الإجرائي علي الدستور أم الانتخابات سمح أيضا للوزارة الحالية بالهروب للأمام من مشكلات واستحقاقات كثيرة, واعتماد آلية التأجيل أو الحلول الجزئية وهي آليات استخدمها نظام مبارك لسنوات طويلة فالمحليات باقية ورؤساء الجامعات, والحد الأدني للأجور700 جنيه سيرتفع الي1200 بعد خمس سنوات!!, ولا حديث عن وضع حد أعلي للأجور, وأصبحت مطالب العمال والموظفين هي مطالب فئوية, وهي في الحقيقة كذلك, لكن فئويتها لا تعني عدم عدالتها ولا تبرر مطلقا تجريم الاعتصامات والإضرابات طالما أن المشاركين فيها لا يستخدمون العنف أو يلجأون للتخريب, أما القول بأن الاعتصامات والإضرابات تعرقل الإنتاج, فهذه من البديهيات فكل الإضرابات أو الاعتصامات التي تقرها المواثيق الدولية وقعت عليها مصر لابد وأن تلحق أضرارا بالعملية الإنتاجية. بل إن فلسفة الإضرابات والاعتصامات تقوم علي هذه الفكرة, حتي يسارع أصحاب المصانع والشركات بالتفاوض مع المضربين لحل مشاكلهم واستعادة النشاط الإنتاجي. وتلجأ الحكومة أيضا الي طرح مشروعات طموحة مثل المخطط الاستراتيجي للتنمية العمرانية تتطلب عدة سنوات, وتنسي أنها حكومة غير منتخبة وأن مهمتها تصريف الأعمال, واستعادة الأمن وهدم أركان ومؤسسات النظام القديم والإعداد للتحول الديمقراطي وهي أمور لم تتمكن بعد مرور100 يوم علي توليها الحكم من تحقيقها, رغم الضجيج الإعلامي وحملات العلاقات العامة التي تطلقها بانتظام لتحسين صورتها, والمفارقة هنا أن الإعلام الحكومي استعاد جزءا كبيرا من قدراته وخبراته السابقة في الترويج للحكومة, وبدأ يضبط بوصلة الأداء في اتجاه مدح الحكومة والمجلس العسكري فالخبر الأول أصبح في كل النشرات الإخبارية عن الحكومة أو المجلس العسكري بغض النظر عن أهميته الخبرية. النموذج الإرشادي لنظام مبارك لايزال للأسف يعمل بكفاءة, فالحوارات التي تجريها الحكومة أو المجلس العسكري شكلية تماما وتفتقر للانتظام والتأثير, ولا تعبر عن قوي وفاعليات ثورة25 يناير. وبالتالي جاءت حوارات الجمل وحجازي والمجلس العسكري ضعيفة وبدون نتائج محددة, أو قرارات ملزمة تماما كالحوارات التي كان يرعاها النظام السابق وفي هذا المناخ من الطبيعي أن تظل آلية الإملاء وإصدار القرارات والبيانات من أعلي لأسفل هي سيدة الموقف وعنوان المرحلة وبدون مشاركة مجتمعية تدعم من مسيرة الثورة وتنهي النموذج الإرشادي للرئيس المخلوع, وتقتلع رجال النظام السابق الذين يتصدرون المشهد في كثير من مؤسسات الدولة, طالما أن قوي الثورة منقسمة علي نفسها في معركة الدستور أم الانتخابات, ومعركة الدولة المدنية أم الدولة المدنية بمرجعية إسلامية ولا شك في أهمية المعركتين, لكن هناك قضايا أهم تستحق من قوي الثورة الاهتمام والتركيز, واستعادة الإجماع الوطني أي أن ثورتنا بحاجه ماسة الآن الي التمييز بين الصراع الفكري والسياسي السلمي بين قوي الثورة حول إجراء الانتخابات والدستور وطبيعة النظام السياسي بعد الثورة تناقضات داخلية, وبين معركة قوي الثورة, علي ما بينها من اختلافات, ضد نظام مبارك ونموذجه الإرشادي ورجاله في الحكم. عميد المعهد الدولي للإعلام بأكاديمية الشروق خبير في بحوث الرأي العام والصحافة