يظن كثير من الناس أن الدعوة إلي الله تعالي مجرد إبلاغ حكم وإعلان طريق دون التفات إلي وسيلة مناسبة أو وقت ملائم. لكن الحقيقة أن الدعوة إلي الله تعالي تحتاج إلي وسائل وأساليب قد تختلف باختلاف الأفراد والمجتمعات والثقافات والأزمنة والأماكن, وإن التنبه لذلك هو من جوهر الحكمة التي أرشد القرآن الأمة في شخص نبيها باستخدامها حين قال تعالي ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. والمقصود بالحكمة الإصابة في القول والعمل ومراعاة مقتضي الحال دون زيادة أو نقصان, فإن الغاية هي حث الناس علي قبول الحق والعمل به, ومن المواقف البليغة المبينة لمقصود الحكمة وأثرها ما حدث علي عصر رسول الله صلي الله عليه وسلم حين دخل أعرابي المسجد فبال في ناحية منه, فأراد الأصحاب أن يزجروه, فكفهم النبي صلي الله عليه وسلم وأمرهم ألا يقطعوا عليه بوله ثم أمرهم أن يريقوا مكان البول ذنوبا من ماء, ثم دعا الأعرابي إليه, فيقول الأعرابي فوالله ما زجرني ولا شتمني, ثم أخبره صلي الله عليه وسلم أن المساجد لا تصلح لشيء من ذلك, فكانت النتيجة أن قال الأعرابي اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم أحدا معنا, فضحك صلي الله عليه وسلم وقال: لقد حجرت واسعا. ولنتعلم من هذا كيف أن من الحكمة الصبر علي بعض الخطأ اتقاء الوقوع فيما هو أشد, أو املا في الوصول إلي ما هو أحسن, وأن لكل موقف ما يناسبه من المقال والأسلوب. وقد ضرب النبي المثل في تعامله مع أفراد أمته بالرجل الذي انفلتت ناقته فجعل الناس يطلبونها فلا يزيدها ذلك إلا شرورا, فقال صاحبها خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أعلم بها, ثم أخذ شيئا من خشاش الأرض فجعل يشير به, ومازال الرجل يقترب من ناقته شيئا وتقترب ناقته منه شيئا حتي أمسك بزمامها. ولكي نستطيع تحقيق الحكمة في الدعوة فإننا نحتاج إلي أمور منها: أولا: العلم, فإن رأي الجاهل ضلال, وإرشاده وبال, وحكمه فساد, وبغير العلم لا نستطيع التمييز بين الخطأ والصواب, والراجح والرجوح, ولا التماس العذر لأصحابه, ثم إن أصل الدعوة الإرشاد إلي الصواب ولا صواب بغير علم. ثانيا: المعرفة بحال المدعو, فإن لكل شخص ما يناسبه من الأسلوب والمعرفة, وقديما قال الحكماء: ليس كل ما يعرف يقال, ولا كل ما يقال حضر وقته, ولا كل ما حضر وقته حضر أهله. ثالثا: الخبرة بكيفية إرشاد الناس وما يناسبهم, وقد قال عبد الله بن مسعود ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة, وقال علي بن أبي طالب, حدثوا الناس علي قدر عقولهم أتحبون أن يكذب الله ورسوله. رابعا: الصبر وسعة الاحتمال, فإن نفاد الصبر ضيق وشرود, والقرآن يقول فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم. خامسا: حسن الخلق, فإن سوء الأخلاق من أسباب الصد عن سبيل الله, قال تعالي: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. سادسا: عدم الغفلة عن الهدف الأسمي للداعي وهو الوصول إلي محبة الله تعالي متوسلا لذلك بهداية الناس, وكما قال صلي الله عليه وسلم: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم.